للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مخوف المسالك، وألقي بيدي إلى المهالك [١] ، ومع ذلك فاني رجل وجل من السلطان، مشرد عن/ الأهل والأوطان، وحتى إني [٢] أعثر في الندرة بواحد مثلك، وأتركه يمضي إلى منزل رحب، وعيش رطب، وماء عذب، وأبقى أنا ههنا أكابد التعب، وأناصب النّصب، وأجاهد السّغب [٣] ، وأنشد له [٤] : [الوافر]

تري عينيك ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترّهات

قال أبو العباس، قال له القاضي: يا هذا، إني أراك شابا فاضلا، ولصا عاقلا، ذا وجه صبيح، ولسان فصيح، ومنظر وشارة، وبراعة وعبارة. قال له اللص: هو كما تذكر، وفوق ما تنشر. قال له القاضي: فهل لك إلى خصلة تعقبك أجرا، وتكسبك شكرا، وتحقبك ذخرا، ولا تهتك مني سترا، ومع ذلك فاني مسلّم الثياب إليك، ومتوفز [٥] بعدها عليك. قال اللص: وما هذه الخصلة؟ قال القاضي: تمضي معي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأسلم إليك الثياب، وتمضي على المسار والمحاب.

قال اللص: يا سبحان الله، تشهد لي بالعقل، وتخاطبني بالجهل،/ ويحك، من أمّنني منك أن يكون لك في البستان غلامان جلدان علجان [٦] ، ذوا سواعد شديدة، وقلوب غير رعديدة، يشداني وثاقا، ويسلماني إلى السلطان، فتحكم فيّ آراؤه، ويقضي عليّ ما يشاؤه، فاما أن يوردني الحتف، وإما أن يسومني الخسف.

قال له القاضي: لعمري إنه من لم يفكر في العواقب، فليس للدهر بصاحب، وحقيق بالرجل من كان السلطان له مراصدا، وحقيق باعمال الحيل من كان لهذا الشأن قاصدا، وسبيل العاقل أن لا يغتر بعدوه، بل يكون منه على حذر، وإن كان لا حذر من قدر، ولكني أحلف لك أليّة [٧] مسلم، وجهد مقسم، أني لا أوقع بك مكرا، ولا أضمر لك غدرا.

فقال اللص: لعمري لقد حسّنت عبارتك ونمّقتها، وحسّنت إشارتك وطبّقتها، ونثرت [٨] حبّ خبرك على فخ خيرك، وقد قيل في المثل السائر على ألسنة العرب،


[١] في ش: في المهالك.
[٢] في ش: ومتى إني.
[٣] في ب: وأشاهد الشغب.
[٤] البيت لسراقة البارقي في ديوانه ص ٧٨ تحقيق حسين نصار، ط لجنة التأليف ٧٤٩١. ورواية الديوان:
أري عينيّ ما لم ترأياه. والقياس أن يقول: ما لم ترياه، ويكون في الشطر زحاف.
[٥] متوفز: معجل، والوفز: العجلة، وتوفز لكذا: تهيأ له.
[٦] العلج من الرجال: الشديد الكثير الصّرع لأقرانه، المعالج للأمور، والعلج: كل جاف شديد من الرجال.
(اللسان: علج)
[٧] الألية: اليمين.
[٨] في ش: ونشرت.

<<  <   >  >>