للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبما أن الصلوات الواجبة بحق الإسلام هي: الصلوات الخمس في اليوم والليلة: صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء.

وبما أن التطوع هو ما زاد على الفرض؛ سواء كان واجباً أم لم يكن.

فإن صلوات التطوع، هي: الصلوات الزائدة على الفروض الخمسة؛ سواء كانت هذه الصلوات واجبة أم لا.

فكل صلاة مشروعة في الإسلام زيادة على الفروض الخمسة الواجبة في اليوم والليلة يشملها اسم (صلوات التطوع) .

ولا يخفى عليك إن شاء الله أنه لا تعارض هذا كون بعض الصلوات غير الفروض الخمسة لها حكم الوجوب، مع كونها داخلة في (صلوات التطوع) ، على التقرير السابق؛ لأن وجوبها ليس بذاتها؛ إنما لأمر حف بها، ولا يترتب لها من الأحكام ما يترتب للفروض الخمسة؛ من استقرار وجوبها العيني على كل مسلم ومسلمة، حضراً وسفراً، لأن وجوب هذه الصلوات الخمس إنما هو بحق الإسلام، أما غيرها من الصلوات – إذا وجبت – فإن وجوبها بأسباب مختلفة؛ كدخول المسجد وإرادة الجلوس فيه، فإنه سبب لوجوب تحية المسجد، ووجوب الوفاء بالنذر سبب لوجوب الصلاة المنذورة، وهكذا (١)


(١) وبهذا التقرير تعلم أن من يستدل بحديث طلحة بن عبيد الله؛ قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات في اليوم والليلة " فقال: هل علي غيرها؟ قال: " لا، إلا أن تطوع" ... الحديث. أخرجه البخاري في (كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، حديث رقم ٤٦) ، وأطرافه من البخاري تحت الأرقام التالية: (١٨٩١، ٢٦٧٨، ٦٩٥٦) .
أقول: بالتقرير المذكور تعلم أن من يستدل بهذا الحديث على عدم وجوب شيء
ص١١
من الصلوات غير الصلوات الخمس لم يصب، وذلك لأن حديث الأعرابي إنما هو في تقرير الواجب بحق الإسلام، فلا ينفي الواجب بغيره، لأن وجوب غير الصلوات الخمس إنما هو بأسباب خاصة. ويرشح هذا المعنى أمور؛ منها:

-قوله في الحديث: " خمس صلوات في اليوم والليلة"؛ إذ معناه: " المفروض على المسلم في كل يوم وليلة خمس صلوات، لا زائد عليها، وهذا لا ينافي وجوب صلوات أخرى، كصلاة تحية المسجد مثلاً؛ لأنها ليست من صلوات اليوم والليلة، بل هي ذات سبب خاص، وليست عينية أيضاً، وكذلك الصلوات المنذورة؛ فليست مما كتبه الله، بل هي داخلة في التطوع الذي قد يكتبه المرء على نفسه، فيلزمه الله ما التزم" "المختار من كنوز السنة " (ص٣٢٦) .
-ويؤكد هذا قوله في تمام الحديث: " صيام رمضان" قال: هل علي غيره؟ قال: " لا؛ إلا أن تطوع" وذكر له الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع".
ومعلوم اتفاق أهل العلم على وجوب الصوم في الكفارات إذا تعين على المسلم، ومن يدل نسك الحج: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} ، وصوم النذر، وصوم أولياء الميت: "من مات وعليه صوم؛ صام عنه وليه ... " متفق عليه (انظر جامع الأصول ٦/٤١٧) .
وكذا اتفاقهم على الواجب في مال المسلم لا ينحصر في الزكاة؛ فالنفقة على من تجب نفقته واجبة، وما يجب على العبد بسبب الكفارات، وبسبب الجنايات، وبسبب النذر ... إلخ، وقول من قال من الفقهاء: "ليس في المال حق سوى الزكاة"؛ إنما يعني به: ليس في المال حق واجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال؛ كما تقدم، وكوجوب أداء الديون، وحمل العاقلة، ووجوب الإعطاء في النائبة، وغير ذلك. " الإيمان لابن تيمية (ص ٢٩٨ - ٢٩٩) .
-ويزيد هذا المعنى وضوحاً قول الأعرابي في آخر الحديث عند البخاري (١٨٩١) : والذي أكرمك بالحق؛ لا أتطوع شيئاً، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق (أو: دخل الجنة إن صدق) "، وفي رواية: والله؛ لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق ".
=إذ ظاهره أنه يريد: لا أزيد على ما فرض علي بحق الإسلام، ولا أنقص شيئاً مما فرض علي بحق الإسلام؛ فلا أزيد صلاة في اليوم والليلة على الصلوات الخمس، ولا أصوم شهراً زيادة على رمضان ... وهكذا.
ويدل على أن المراد ذلك؛ أنه علق فلاحه على صدقه في عدم الزيادة وعدم النقص؛ فكيف يصح أن يشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفلاح على عدم الزيادة على الخمس إذا كان المراد بالزيادة التي ليست بواجبة؟ ولا يقال: إنه أثبت له فلاحه إذا أتى بما عليه، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحاً. أقول: لا يقال هذا؛ لأنه خلاف ظاهر النص، خاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: " إن صدق"، ومع وجود المعنى الذي ذكرته؛ فلا تكون حاجة إلى هذا التكلف.
ثم كيف يقره الرسول صلى الله عليه وسلم على الحلف أن لا يستكثر من الخير. فيقول: " والله لا أزيد ... "؟!
ولينظر: " نيل الأوطار" (٣/٨٣-٨٤) ، و "كتاب الإيمان" لابن تيمية (ص ٢٩٧-٣٠٠) .
فإن قيل: إن عبادة بن الصامت لما قيل له: إن فلاناً يقول: الوتر واجب؛ أجاب: بأن الله فرض خمس صلوات. وهو جواب يلتقي فيه مع من يستدل بحديث الأعرابي على عدم وجوب شيء من الصلوات غير الخمس.
فالجواب: إن استدلال عبادة لا يخالف التقرير الذي ذكرته؛ لأن عبادة إنما أورده في حق صلاة الوتر، فكأنه قال: الواجب على المسلم في اليوم والليلة بحق الإسلام خمس صلوات، ولو قيل بوجوب الوتر؛ لكان الواجب ست صلوات، وهذا خلاف ما أوجبه الله على العباد من الصلاة في اليوم والليلة. وبالله التوفيق.
فائدة: يستفاد من هذا الحديث أن كلمة (تطوع) استعملت فيه بمعنى الزيادة، سواء كانت واجبة أم مستحبة، ألا تراه قال: " والذي أكرمك بالحق؛ لا أتطوع شيئاً، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فقابل بين التطوع والنقص، ويفسره مؤكداً لهذا المعنى الرواية الأخرى: " والله؛ لا أزيد على هذا ولا أنقص".
وقد استعملت في هذه الرسالة كلمة تطوع بهذا المعنى؛ أعني: الزيادة مطلقاً، سواء كانت واجبة أم لم تكن واجبة.
ومما تقدم في تعلم السر في أن المصنفين في أحاديث الأحكام وغيرهم يبوبون (باب صلاة التطوع) ، ثم يقررون وجوب بعض هذه الصلوات، وذلك يدل على أنهم رحمهم الله فهموا التطوع بمعنى الزيادة، سواء كانت واجبة أم غير واجبة، ولم يفهمون بمعنى الزيادة التي ليست بلازمة؛ كما هو أصل المعنى اللغوي.
وعليه؛ فإن كلمة (التطوع) في الشرع جاءت بأوسع من معناها في اللغة؛ خلافاً لغيرها؛ ككلمة (الحج) و (الصلاة) ، والله أعلم.

<<  <   >  >>