للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من بنى الصيداء من أهل القصيم، وكان، والله، واسع الرحل، كريم المحل، فأصبحت وقد عزمت عَلَى الرجوع إِلَى العراق، فأتيت أبا مثواى، فقلت: إنى قد هلعت من الغربة واشتقت أهلي، ولم أفد فِي قدمتي هذه إليكم كبير علم، وإنما كنت أغتفر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة، فأظهر توجعا، ثم أبرز غداءً له فتغديت معه، وأمر بناقة له مهرية كأنها سبيكة لجين فارتحلها واكتفلها، ثم ركب وأردفنى وأقبلها مطلع الشمس، فما سرنا كبير مسير حتى لقينا شيخ عَلَى حمار له جمة قد ثمغها كالورس فكأنها قنبيطة، وهو يترنم، فسلم عليه صاحبى وسأله عَنْ نسبه، فاعتزى أسدياً من بنى ثعلبة، فقَالَ: أتنشد أم تقول؟ فقَالَ: كلا، فقَالَ: أين تؤم؟ فأشار إِلَى ماء قريب من الموضع الذي نحن فيه، فأناخ الشيخ وقَالَ لي: خذ بيد عمك فأنزله عَنْ حماره، ففعلت، فألقي له كيسا قد كان اكتفل به، ثم قَالَ: أنشدنا، رحمك الله، وتصدق عَلَى هذا الغريب بأبيات يعيهن عنك ويذكرك بهن، فقَالَ: إى ها الله إذاً! ثم أنشدنى:

لقد طال يا سوداء منك المواعد ... ودون الجدا المأمول منك الفراقد

إذا أنت أعطيت الغني ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد

تمنيننا غداً وغيمكم غدا ... ضباب فلا صحو ولا الغيم جائد

وقل غناءً عنك مال جمعته ... إذا ثار ميراثا وواراك لا حد

إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد

إذا الحلم لم يغلب لك الجهل ... لم تزل عليك بروق جمة ورواعد

إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيباً كما استتلى الجنيبة قائد

إذا أنت لم تترك طعامًا تحبه ... ولا مقعدًا تدعوا إليه الولائد

تجللت عارا لا يزال يشبه ... سباب الرجال نقرهم والقصائد

وأنشدنى أيضاً:

تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس عَلَى ريب الزمان معول

فلو كان يغنى أن يرى المرء جازعاً ... لنازلة أو كان يغنى التذلل

لكان التعزى عند كل مصيبة ... ونازلةٍ بالحر أولى وأجمل

<<  <  ج: ص:  >  >>