للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الكامنة فيه لمجرّد أنها قديمة في ذاته وأصيلة في وعيه بنفسه؛ فلن تكون النتيجة غير تحويل الإنسان إلى منتج صناعي هشّ بلا أصل له ممتد في تربة التاريخ, وإنشاء حالة اغتراب لروحه في جنبات كيانه..

ثانيا/ يعيش الغرب اليوم من الناحيتين الفكرية والقِيَميّة تحت سلطان فكر ((ما بعد الحداثة)) ((Post-modernism)) , وهو الفكر الذي يضخّ في شرايين أنسجة البناء الأسري والمجتمعي الغربي المفاهيم والقناعات والتصورات..ونظرًا للطبيعة الإسفنجيّة الرخوة للعالمانيين العرب؛ فإنّهم لا ينظرون بعين النقد إلى الأصل الرَحِمِيّ لمتبنيّات الغرب, وإنّما قد شغلهم النقل والنسخ والتكرار الغرّ عن التدبّر والتفكّر!

فما هو فكر ((ما بعد الحداثة)) الذي يعدّ مخالفه (رجعيًا) ؟

((ما بعد الحداثة)) هو فكر ((اللافكر)) أي هو فكر لا يستمد وجوده من نفسه, وإنما يعود في تشكيل ماهيّته إلى نفي غيره ((اللا)) ؛ فهو (ليس) غيره, أي ليس (الحداثة) ولا غيرها من المنظومات الكليّة المعروفة.. هو فكر عاجز أن يثبت ذاته (من) ذاته! إنّه فلسفة الرفض والتيه, وإفناء كلّ الأنماط القديمة, وإلغاء (المركز) الذي يدور حوله الموجود الإنساني, وإلغاء فكرة الحقيقة المطلقة, وفاعلية العقل على إفراز مدركات يقينيّة.. إنّه المظهر الشمولي للعدميّة (nihilism) !

يعتبر المنهج ((التفكيكي)) من أهمّ آلية التفكير والتفسير في فكر ((ما بعد الحداثة)) , وهو منهج ((يفكّك)) الإنسان إلى قطع من ((الأشياء)) و ((النزعات)) لتشريحه وفهمه. وعمليّة التفكيك هذه هي جوهر ما يسمّى ((الاستنارة المظلمة)) أي رؤية الإنسان باعتباره كائنًا طبيعيًّا تحرّكه غرائزه الوحشيّة المظلمة القابعة داخله, أو القوانين الآليّة الموجودة خارجه ولا يمكنه تجاوزها. (١)

لقد تحوّل (الإنسان) في النسقين الفكري والقيمي في زمن ((ما بعد الحداثة)) إلى (كائن سائل) فاقد للمعالم الثابتة التي تمنحه تفوّقًا (حقيقيًا) على (الحيوان) !


(١) عبد الوهاب المسيري, العلمانية تحت المجهر, بيروت: دار الفكر, ٢٠٠٠م, ص ٥٦

<<  <   >  >>