للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:
فهرس الكتاب حرف الفاء وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها.

ملأ فؤادي سرورا فأنا أشكر لهن اختيارهن هاته الليلة للإفطار ومجيئهن إلى هذا المنزل حيث أسعدني الحظ بمرآهن.

فترجمت كلام المدام لهن ونقلت لها كلامهن الدال على أنهن يشعرن بمثل ما تشعر به من المسرة والامتنان، ثم قلت لها: إن السيدات قد تولتهن الدهشة من جمالها ورقتها وأنهن لن يقنعن ببيان منتهن لها ولكن يتأسفن لعدم معرفة اللسان لمسامرتها مباشرة.

وجملة القول: إنني بواسطة الترجمة ونقل كلام الفريقين إلى البعض الآخر مكنت اللغة والصحبة بين المدام وبين السيدات ومع أنه لم يمر على مجيء مدام ر. ... إلى دار السعادة أكثر من أسبوع واحد فقد خصصت من وقتها ساعة واحدة لتعليم التركية فحفظت منها جملة مفردات، وبينا كنت أترجم لها كلام السيدات المومى إليهن كانت في بعض الأحيان تجيب بلفظة نعم أو لا إشارة إلى أنها كانت تفهم بعض الكلمات، وكنت أترجم لها ما خفي عنها من سائر العبارات، وكانت المفردات التي حفظتها في خلال أسبوع مسطرة في محفظتها وهي كثيرة جدا إلى حد يوجب التعجب وقد أنبأتني أنها عند رجوعها إلى بلادها لا تهمل تعلم التركية وإنما ستستمر على الدرس والمطالعة، وكانت تلفظ المفردات التي تعلمتها لفظا حسنا مما يثبت لها الاستعداد الطبيعي ومع أنها إنكليزية المحتد والمولد فقد كانت تتكلم الفرنسية كإحدى الباريسيات.

وكانت منذ دخولها إلى القاعة تمعن النظر أيما إمعان بجميع من كان هناك من السيدات منتقلة من الواحدة إلى الأخرى على أنها لم تكن تنظر إليهن بعين البلهاء الحمقاء، وإنما كانت تلقي عليهن نظرة التدقيق والإمعان أما أنا فقد حملت ذلك عنها على رغبة التأمل بالنسبة للسيدات التركيات وطريقة زينتهن، وبعد مدة انقطعت عن الكلام توا وضاعفت تدقيقها وإمعانها لكل من الخواتين على حدة، ثم ما عتمت أن ظهرت على وجهها آثار التفكر كما يحصل في الغالب لكل إنسان يحاول الحصول على شيء يراه ممتنعا عليه وقرنت حاجبيها قليلا فباحت شفتاها بما في ضميرها والتفت إلي قائلة: لقد بذلك جهدي هذه الفترة على أمل أن أتمكن من كشف شيء كنت أدعي الحصول عليه فلم أتوفق إليه وذهب ذلك التفكر أدراجا فإني ألجأ إلى مروءتك بإزالة ما حصل لي من اليأس على أثر إخفاق مسعاي وعساك أن تمني بإيضاح يكون لي منه ما أرجوه من السلوى.

فقلت: مري أيتها المدام.

قالت: مَن مِن هؤلاء السيدات الموجودات في القاعة ضرة للأخرى؟ قلت: عفوا أيتها المدام أتسمحين لي قبل أن آتيك بالبيان عما أمرت به أن أسألك سؤالا واحدا.

قالت: تفضلي أيتها السيدة.

قلت: على أية صورة تدعين كشف المسالة.

قالت: بنظر أن كلا منهما ضرة للأخرى فلقد مر علي هنا نصف ساعة تحريت بها عمن تنظر إلى الثانية منهن بعين الخصومة والبغضاء، ولكنني لم أر إلا أن كل واحدة منهن تنظر إلى الأخرى بعين الحب والتودد لا جرم أن فقدان الضرائر في مثل هاته الجمعية الكبيرة كان يحملني على التفكر بأن ذلك ممتنع الإمكان في تركيا لعلمي أن عدم وجود الضرائر نادر بدرجة يشير بها الزوج إلى زوجته بالبنان أما الآن فدق تأسفت إذ علمت أن نظري الذي كنت أظنه قد خدعني.

<<  <   >  >>