للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» .

وَفِي لَفْظٍ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ)

ــ

[نيل الأوطار]

[بَابُ مَا جَاءَ فِي صَوْمِ شَعْبَانَ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ]

حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ قَوْلُهُ: (شَهْرًا تَامًّا إلَّا شَعْبَانَ) وَكَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ " فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ ". وَقَوْلُهَا: " بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ " ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ قَوْلَ عَائِشَةَ " كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا " وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ وَالتَّمَامِ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْكُلِّ وَالتَّمَامِ مُفَسَّرَةٌ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَمُخَصَّصَةٌ بِهَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ وَاسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ قَالَ: لِأَنَّ لَفْظَ كُلٍّ تَأْكِيدٌ لَإِرَادَةِ الشُّمُولِ وَرَفْعِ التَّجَوُّزِ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ، قَالَ: فَيُحْمَلُ عَلَى. أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ تَارَةً، وَيَصُومُ مُعْظَمَهُ أُخْرَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ وَاجِبٌ كُلَّهُ كَرَمَضَانَ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا: " كُلَّهُ " أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ أَوَّلِهِ تَارَةً وَمِنْ آخِرِهِ أُخْرَى، وَمِنْ أَثْنَائِهِ طَوْرًا فَلَا يُخَلِّي شَيْئًا مِنْهُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا يَخُصُّ بَعْضًا مِنْهُ بِصِيَامٍ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: إمَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ، وَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّ قَوْلَهَا: " إنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ " مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهَا: " إنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ " وَأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ أَخْبَرَتْ عَنْ آخِرِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهَا: «وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي إكْثَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ فَقِيلَ: كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرِ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتَجْتَمِعُ فَيَقْضِيَهَا فِي شَعْبَانَ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ صَوْمُ السَّنَةِ فَيَصُومَ شَعْبَانَ» ، وَلَكِنَّ فِي إسْنَادِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ» وَلَكِنَّ إسْنَادَهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ صَدَقَةَ بْنَ مُوسَى وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ نِسَاءَهُ كُنَّ يَقْضِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ، فَكَانَ يَصُومُ مَعَهُنَّ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ أَنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ رَمَضَانُ وَصَوْمُهُ مُفْتَرَضٌ، فَكَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>