للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

ــ

[نيل الأوطار]

[بَابُ مَا جَاءَ فِي الشُّبُهَاتِ]

قَوْلُهُ: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ) إلَخْ، فِيهِ تَقْسِيمٌ لِلْأَحْكَامِ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَهُوَ تَقْسِيمٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إمَّا أَنْ يَنُصَّ الشَّارِعُ عَلَى طَلَبِهِ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ يَنُصَّ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ لَا يَنُصَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالْأَوَّلُ: الْحَلَالُ الْبَيِّنُ وَالثَّانِي: الْحَرَامُ الْبَيِّنُ، وَالثَّالِثُ: الْمُشْتَبَهُ لِخَفَائِهِ فَلَا يُدْرَى أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَامًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّبَعَةِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَى التَّرْكِ لِهَذَا الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ حَظْرٌ أَوْ إبَاحَةٌ

وَهَذَا التَّقْسِيمُ قَدْ وَافَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِمَّنْ سَيَأْتِي إنَّ الْمُبَاحَ وَالْمَكْرُوهَ مِنْ الْمُشَبَّهَاتِ وَلَكِنَّهُ يَشْكُلُ عَلَيْهِ الْمَنْدُوبُ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ عَلَى مَا زَعَمَهُ صَاحِبُ هَذَا التَّقْسِيمِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بَيِّنًا أَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ أَوْ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَقَدْ يَرِدَانِ جَمِيعًا أَيْ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ مَا وَرَدَا فِيهِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ

قَوْلُهُ: (أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ) أَيْ: شُبِّهَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُتَبَيَّنْ فَحُكْمُهُ عَلَى التَّعْيِينِ زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» أَيْ: لَا يَعْلَمُ حُكْمَهَا وَجَاءَ وَاضِحًا فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُهُ: «لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ؟» وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: كَثِيرٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِهَا مُمْكِنٌ لَكِنْ لِلْقَلِيلِ مِنْ النَّاسِ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ، فَالشُّبُهَاتُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَعُ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ

قَوْلُهُ: (وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ) فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ «أَلَا إنَّ حِمَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ» وَالْمُرَادُ بِالْمَحَارِمِ وَالْمَعَاصِي: فِعْلُ الْمَنْهِيِّ الْمُحَرَّمِ، أَوْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ الْوَاجِبِ، وَالْحِمَى: الْمَحْمِيُّ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ وَفِي اخْتِصَاصِ التَّمْثِيلِ بِالْحِمَى نُكْتَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مُلُوكَ الْعَرَبِ كَانُوا يَحْمُونَ لِمُرَاعِي مَوَاشِيهِمْ أَمَاكِنَ مُخْصِبَةً يَتَوَعَّدُونَ مَنْ رَعَى فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ، فَمَثَّلَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، فَالْخَائِفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ الْمُرَاقِبُ لِرِضَا الْمَلِكِ يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ الْحِمَى خَشْيَةَ أَنْ تَقَعَ مَوَاشِيهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَبُعْدُهُ أَسْلَمُ لَهُ، وَغَيْرُ الْخَائِفِ الْمُرَاقِبُ يَقْرُبُ مِنْهُ وَيَرْعَى مِنْ جَوَانِبِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>