للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

في قوله (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) كلمة (الاشتباه) و (المشتبه) معناها ما لا يُدْرَكُ معه العلم ويُقابَلْ ما بين المُحْكَمْ والمتشابه.

والله - عز وجل - جعل القرآنَ مُحْكَمَاً ومتشابهاً؛ يعني صَيَّرَ القرآن مُحْكَمَاً ومتشابهاً.

والقرآن يصحّ أن يقال:

- إِنَّهُ مُحْكَمٌ كله.

- وإِنَّهُ متشابهٌ كله.

- وإِنَّهُ محكم ومتشابه.

فالقرآن منه محكم ومنه متشابه، والقرآن محكم كله، والقرآن متشابه كله، بكل قسم باعتبار.

@ أما كونه مُحْكَمٌ كله:

فالله - عز وجل - بيَّن أَنَّهُ أحكم القرآن كما قال {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:١] ، فالقرآن مُحْكَمٌ كله {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:٢] ؛ يعني المحكم في أحد أوجه التفسير.

@ وأما كونه متشابهٌ كله:

فكما قال سبحانه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:٢٣] ، فالقرآن كله متشابه؛ لكن هذا بمعنى أنَّ بعضه يشبه بعضاً.

لأنَّ المسائل محدودة وبعضه يشبه بعضاً: هذا قصص في سورة وقصص في سورة وقصص في سورة، هذا الكلام على الإيمان والإيمان والإيمان، والكلام على الجنة والنار في سور مختلفة، في صفات الله، وأسماء الله - عز وجل - فهو متشابه.

@ وأما كونه منه محكم ومنه متشابه:

وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي في هذا الموضع قال (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) .

(منه محكم) يعني ما معناه واضِحٌ للجميع.

(ومنه متشابه) ما يشتبه معناه على البعض.

وإذا تبين ذلك فليس ثَمَّ في القرآن إذاً متشابه على كل أحد، ليس ثَمَّ في القرآن متشابه مطلق.

نقول هذه المسألة متشابهة بمعني أنَّه لا أحد يعلمها، أي في القرآن آية لا أحد يعلم معناها هذا مستحيل لأنَّ الله - عز وجل - جعل القرآن محكماً كله، وجعل منه محكم ومنه متشابه، والراسخون في العلم يعلمون المتشابه الذي هو المعنى.

أما المتشابه النسبي فنعم، هذا المتشابه النسبي ما معناه؟

معناه أنَّهُ ما من شيء إلا ويشتبه عليّ أو عليك أو على فلان، فليس ثَمَّ أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ كل شيء، عَلِمَ كل القرآن، عَلِمَ كل السنة، لابد أن يشتبه عليه شيء، بمعنى أن يستسلم لبعض الشريعة فإنه لا يعلم المعنى.

وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال عند قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:٣١] قال: (أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) (١) .

مثلاً: عند قوله تعالى {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:٢٢] كم عِدَّةْ أصحاب الكهف؟

متشابهة؛ يعني أنا لا أعلم، أنت لا تعلم، ابن عباس رضي الله عنه حينما جاء إلى هذه الآية قال (أنا من القليل الذي يعلمه) (٢) ، لأنَّهُ متشابه نسبي.

فإذاً الذي يقول إنَّ في القرآن متشابه مطلق على كل أحد، هذا غير موجود لا في العقائد ولا في العمليات.

لكن هناك متشابه على الجميع وهو الكيفيات؛ كيفيات الأشياء، كيفيات الغيبيات.

ولهذا قال كثير من السلف إنَّ الوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧] ؛ يعني تأويل الآيات، تأويل المتشابه المحكم ما يعلمه إلا الله في أمور الكيفيات، في أمور تمام المعنى، في الجنة جاءت صفتها نعلم معنى الأنهار ومعنى الشجر؛ لكن كيفية ذلك هذا مشتبه علينا.

لذلك نقول: الاشتباه نسبي، أما الاشتباه المطلق لا يوجد.

فإذا كان كذلك: لزم أن نَرُدَّ علم ما اشتبه علينا إلى عالمه، نقول الله اعلم.

لهذا قال من قال من أهل العلم (إذا ترك العالم الله أعلم أُصِيْبَتْ مقاتله) ، وفي رواية قال: (إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) (٣) ، لأنَّهُ لابد أن يشتبه عليه شيء.

إذا تقرر لك ذلك: فإنّ الاشتباه الحاصل يكون في العقيدة وفي الشريعة.

فكلّ ما لا تعلم عِلّتَه أو حكمته أو السِّر فيه فهو متشابه، فَسَلِّم للشريعة، سلِّم للكتاب والسنة الحق وأيقن بذلك ورُدَّ ما اشتبه إلى عالمه.

مثلاً في العقائد يأتينا أنواع الاشتباه.


(١) مصنف ابن أبي شيبة (٣٠١٠٧)
(٢) المعجم الأوسط (٦/١٧٥) وانظر تفسير الطبري لسورة الكهف (٨/٢٠٥) / ابن كثير (٣/١٠٧) / البغوي (١/١٦١)
(٣) حلية الأولياء (٧/٢٧٤) عن سفيان بن عيينة قال (إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) .

<<  <   >  >>