للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

يمكن أن يُضْبَطَ ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان في الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية بضابط وهو أنه:

- إذا اقْتُرِنَ بالإيمان الأمَنْ ْأو كانت الدِّلَالَةُ عليه فإنَّ المراد به سعة المعنى اللغوي.

- وإذا عُدِّيَ الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإنَّ المراد به الإيمان العرفي؛ يعني اللُّغَوِي العرفي.

- وإذا عدي الإيمان بالباء، فإنه يراد به الإيمان الشرعي.

وهذه كل واحدة لها طائفة من الأدلة تَدُلُّ عليها.

١- المعنى اللغوي: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] ، {آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ} هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي.

٢- المعنى العرفي: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:١٧] ، لاحظ التعدية باللام {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:٢٦] ، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:٦١] يعني النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} هذا المعنى العرفي.

٣- الإيمان الشرعي: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [البقرة:٢٨٥] ، لاحظ الباء، عُدِّيَ الباء للدلالة الشرعية.

لماذا اختلفت التعدية؟

لأنَّ المطلوب اختلف.

كيف؟

@ الإيمان اللغوي ما دام أنَّهُ تصديق فتقول: العرب صَدَّقَ لفلان، تعديه باللام، صَدَّقَ لفلان، وتقول صَدَّقَ بكذا أيضا فتعديه بالباء

@ لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا -لاحظ التعدية مُضَمَّنٌ أَقَرَّ بكذا -أَقَرَّ تتعدى بالباء في اللغة أليس كذلك؟ - أَقَرَّ بكذا، فتكون صحيحة، عمل بكذا صحيحة، صَدَّقَ بكذا صحيحة.

ولهذا لمَّا عُدِّيَ الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمِّنَ المعنى الأصلي في اللغة وزيادة تصلح للتعدية بالباء.

فالمعنى اللغوي يتعدى باللام، فلماذا عُدِّيَ بالباء تفريقاً ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي؟

هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العُرفي.

هذا كثير: في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى، ثم تختلف التعدية بالحرف فيُضَمَّنْ الفعل معنى فعل آخر.

سنضرب له مثالاً حاضر عندكم جميعاً وإن كان الأمثلة كثيرة لكن لقربه منكم.

مثلا تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥] ، قالوا هنا ما معنى الإرادة؟

الهم، يعني الهم الجازم.

لماذا؟

قالوا لأنَّ الإرادة بنفسها تَتَعَدَّى، الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها، تقول أردت الذهاب، أردت المجيء، أردت القراءة، ما تقول أردت بالقراءة، فلما قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} ، ما قال (ومن يرد فيه إلحاداً) ، بل قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} علمنا أنَّ كلمة {يُرِدْ} هذه فيها فعل يناسب التعدية بالباء وهو هَمَّ.

هَمَّ بكذا هَمَّ فلان بكذا هذا الذي يناسب.

ولذلك فسره الأئمة بأنَّ المراد بالإرادة هنا الهم الجازم فيُؤَاخَذْ عليه ولو لم يحقق الإرادة من كل وجه وإنما يَصْدُقُ عليه الهَمْ؛ إذا هَمَّ بالفعل، هَمَّ به صار داخلاً في الفعل.

نرجع هنا في اللغة {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:٢٦] ، يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ لَهُ، تقول أنا أقررت لك، إيش أقول أقررت إياك؟

لا، أقررت بكذا؛ لكن لفلان، أقررت بفلان ولا أقررت لفلان ما قال؟

أقررت لفلان ما قال، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ له، إلى آخره.

لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي؛ لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة عن التعدية باللام إلى التعدية بالباء قال - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:١٣٦] . ما قال آمنوا لله ولرسوله مع أنه قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:٦١] ، وقال في لوط {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} إلى آخره {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:١٣٦] .

فإذاً دَلَّنَا على أَنَّ هذا المعنى هو المعنى اللغوي، وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء وهو العمل.

تقول عملت بكذا يعني آمنت بكذا فعملت به، آمنت بأنَّ الأمر واقع فعملت به؛ يعني عَمِلْتَ بما آمنت، فلذلك دخلت زيادة تعدية بالباء لتدلنا على أنَّ العمل دخل في مسمى الإيمان أصلاً، وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى.

<<  <   >  >>