للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة التاسعة] :

في قوله (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ - عز وجل - فِي كِتَابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨، ١١٦] ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ) هذه الجملة الطويلة تقريرٌ لأصل عند أهل السنة والجماعة خالفوا به الخوارج والمعتزلة: أنَّ أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين تحت المشيئة.

وقول الله - عز وجل - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني في الكبائر لمن مات غير تائبٍ منها.

والمحققون من أهل العلم جمعوا بين هذه الآية وآية سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] ، وهنا {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأطْلَقَ في آية الزمر وهنا قال {لِمَنْ يَشَاءُ} ، وذلك أنَّ هذه الآية في حق غير التائبين، وأما آية الزمر ففي حق من تاب.

فهو سبحانه لمن مات غير تاب إن شاء غفر وعفا وهذا فضل وإن شاء عَذَّبَ وهذا عدل منه سبحانه بعباده.

ثم قوله (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ) هذا فيه ذِكْرُ سببين للخروج من النار في حق أهل الكبائر.

وهذان السَّببان ضَلَّتْ فيها الفرق من المعتزلة والخوارج ومن شابههم:

١- السبب الأول: رحمة الله - عز وجل -، والرحمة قاعدة عامة في كل فَضْلٍ يحصل للعبد في الدنيا وفي الآخرة.

فالخروج من النار برحمة الله، التخفيف من الحساب برحمة الله، دخول من دَخَلَ الجنة برحمة الله - عز وجل -، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يُدْخِلَ أحَدَكُم الجنة عملُه» (١) أو «لن يَدْخُلَ أحدكم الجنة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ، فهذا السبب عام، فكل من خَرَجَ هو برحمة الله، حتى فيمن شَفَعْ وشُفِّعْ فإنَّ العبد يخرج بعد شفاعة الشافعين برحمة الله - عز وجل -، وهذا يعني أنَّ قوله (بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ) أنها نفهم منها أنه أراد شيئاً مستقلاً وهو أنه محض تفضِّلٍ منه - عز وجل -؛ عَذَّبَ ثم أخرجهم برحمته.

وهذه الرحمة في هذا الموطن لها تفسيران:

- الوجه الأول: أنَّ جَعْلْ الكبيرة مع ما فيها من عِظَمْ المبارزة لله - عز وجل - والتهاون بأمره ومخالفته وارتكاب نهيه، أنَّ هذه الكبيرة لم يحكم الله - عز وجل - على من ارتكبها أنَّهُ يُعَذَّبُ أبدًا.

فكون العذاب إلى أمد رحمة، ثم انقضاء العذاب رحمة، ثم بعثهم إلى الجنة أيضا رحمة.

- الوجه الثاني: أنّ الله - عز وجل - يُخرجُ من النار أيضاً أقواماً صاروا حِمَماً، يعني صاروا على لون السواد من شدة العذاب -والعياذ بالله-، ثم يُلْقَونَ في نهر الحياة فينبُتون فيه من جديد كما تنبت الحِبَّةُ في جانب الوادي وحميل السيل، وهذا أيضاً رحمةٌ من الله - عز وجل - في حق من ارتكب الكبيرة.

٢- والسبب الثاني: شفاعة الشافعين من أهل طاعته.

وشفاعة الشافعين:

- أعلاها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر أن يخرجوا من النار.

- ثم شفاعة الملائكة للمؤمنين الذين ارتكبوا الكبائر أن يخرجوا من النار.

- ثم شفاعة الوالدين لأولادهما.

- وهكذا شفاعة المُحِبْ لحبيبه من أهل الإيمان فيمن شاء الله - عز وجل - أن يُشَفِّعَهُ.

وهذان الأمران: الرحمة على ما ذكرت، وشفاعة الشافعين أيضاً على هذا الوصف- وقد تقدم أظن بحث الشفاعة مُطولاً-، وهذان خالف فيهما أهل الفرق وخاصةً الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.


(١) سبق ذكره (٣٧٨)

<<  <   >  >>