للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثانية] :

قوله (فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ) الاشتباه يعني بِهِ وُرُودْ ما لا تَعْلَم مُطْلَقَاً أو فيما تعلم واشتبه عليك هل هو الصواب أم لا.

ولهذا قال العلماء الاشتباه والمتشابهات المراد منها فيما جاء في النصوص {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧] ، وهنا قال (فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ) المراد بـ: (ما اشتبه، والمتشابهات) المُتَشَابِهْ الإضافي النّسبي لمن قال هذه الكلمة، وأما المُتَشَابِهْ المُطْلَقْ فيما فيه تكليف علماً أو عملاً فإنه لا يوجد في الكتاب والسنة.

فكل ما فيه تكليف في الكتاب أو السنة -تكليف بالأوامر والنواهي- في العلم أو في العمل فلا يكون مُشْتَبِهَاً على الأمة كلها؛ بل قد يشتبه على البعض ويعلمه آخرون؛ لأنَّ الاشتباه الموجود نسبي إضافي بحسب علم العبد، لهذا قد يَرِدُ على العالم أو على من هو أقل علماً أو على الإمام مسائل يشتبه عليه فيها العلم أو لا يعلمها أصلاً.

ترد عليه آية لا يعلم معناها أو مَخْرَجَها، فيسأل عنها، عمر رضي الله عنه سَأَلَ عن آيات، أبو بكر رضي الله عنه جاء عنه أنه قال (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) (١) ، وعمر رُوي عنه نحو هذه الكلمة وسأل عن تفسير آيات وسُئِلَ، والصحابة لم يزل بينهم إِرْجَاعْ في المسائل إلى بعضهم بعضاً، بعضهم يُرْجِعُ إلى بعض المسائل.

فإذاً هذا أصل في أنّ المرء إذا لم يعلم يقول (الله أعلم) ، ويُحِيلُ إلى غيره ممن يعلم.

الاشتباه هنا كما ذكرت لك قد يكون اشتباهاً في الدليل، وقد يكون اشتباهاً في المدلول:

@ في الدليل: ما عَرَفْتَ وجه الدليل أو المسألة، لا تعرف دليلها أصلاً، ليس معنى ذلك أنها ليست بحق؛ لأنَّ علماء الأمة يعلمون دليلها.

@ في المدلول: يكون الدليل معك؛ لكن وجه الاستدلال يشتبه عليك، فلا تَخُضْ في كتاب الله تفسيراً ببيان وجه استدلال وأنت ليس عندك علم به، فتقول (الله أعلم، هذا هو الدليل لكن إيش وجه الاستدلال الله أعلم.

لهذا الإمام مالك يُذْكَرْ عنه أنه سُئِلَ عن أربعين مسألة أو عن ثلاث وثلاثين مسألة فأجاب عن أربع والبقية قال (الله أعلم لا أدري) .

وهذا من عظيم تعظيمهم لله - عز وجل - وأن يقولوا في دين الله ما لا يعلمون.

وهذا في الحقيقة القاعدة هذه أو هذا الأصل تحتاجه كثيراً في النقاش؛ لأنَّ المرء إذا ناقش غيره قد يأتيه الشيطان ويقول أنت تعلم كل شيء، فيترك لا أعلم ويترك الله أعلم ويترك لا أدري فيقع ويأثم.

وهَدْيُ أهل السنة والجماعة التواضع في العلم كما أنَّهُ التواضع لله - عز وجل - في العلم والعمل، لهذا قال ابن المبارك رحمه الله (إنَّ للعلم طغياناً كطغيان المال) (٢) . والله - عز وجل - وصف أهل المال بقوله {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦-٨] ، كذلك المرء قد يزداد عنده العلم حتى تُكْسِبَهُ تلك الزيادة طغيانَاً فيَتَعَدَّى على غيره، ولا يسلك مع الناس سبيل الشّرع في العدل في اللفظ وحمل أقوالهم ونحو ذلك مما يجب على المرء أن يعدل فيه؛ لأنَّ من أراد أن يُقَيِّمْ الأقوال فهو قاض، والقاضي يجب عليه أن يحكم بالعدل لا أن يحكم بالهوى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦] ، والمرء إذا أخطأ (الله أعلم) جاءه كل غلط، تأتيه الآراء الخطأ ويقتنع بها ويُؤَيِّدُهَا ثم يَتَعَصَّبْ لها ثم يحصل فساد من أقواله؛ لكن إذا عَوَّدَ نفسه أن يمتثل هذا الأصل وهو ما لا يعلم يقول (الله أعلم) فُتِحَتْ لقلبه أنوار من العلم، ثم إذا عَلِمَ العلم ثبت عنده بإذن الله تعالى، تَوَاضَعْ لله - عز وجل - ومن تواضع لله - عز وجل - رَفَعَهُ.

هذه بعض الكلمات على هذا الأصل.

أسأل الله - عز وجل - أن يوفقني وإياكم لما فيه رضاه، وأن يغفر لأئمتنا الذين وَرَّثُونَا هذا العلم النافع، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته وأن يُورِدَنَا حوض نبيه، إنه سبحانه أكرم مسؤول جوادٌ غفورٌ رحيم.


(١) سبق ذكره (١٤٩)
(٢) حلية الأولياء (٤/٥٥)

<<  <   >  >>