للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال رحمه الله بعد ذلك (وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ)


يريد بذلك التصديق والإيمان بما دلت عليه الأحاديث والآيات من أنَّ المقبور يكون في نعيمٍ أو في عذاب وأنَّ قبره إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما جاء في الحديث.
وسبب إيراده أنَّ العقلانيين في مسائل عذاب البرزخ والفلاسفة وطائفة من أهل الكلام ينفون أن يكون القبر جنة أو نار، ويقولون بعقولهم إننا نفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لِخُضْرَةْ ولا أثراً لكذا وكذا من النعيم، ونفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لنار، ونلمس الأرض من الخارج ولا نجد أثراً لنار، وهذا من جَرَّاءِ قاعدتهم أنَّ عالم الغيب يُقَاس على عالم الشهادة وأنَّ الجميع يمكن إدراك العقول، يقولون: إنَّ خلق الله واحد وهذا وهذا مداره من حيث القياس واحد.
وهذا الأصل الذي أصَّلُوه خلاف ما دَلَّتْ عليه الأدلة من أَنَّ عالم الغيب غير عالم الشهادة، وعالم الملائكة وعالم الجن غير عالم ما نراه، وهكذا في ما لا نراه من المخلوقات فإنَّ قوانينه وسنة الله - عز وجل - فيه تختلف عما نراه.
والحياة البرزخية والعذاب والنعيم والجنة والنار لا يعرف كيف يكون إيصال ذلك إلى الإنسان وإلى الأرض إلا رب العالمين - عز وجل -، ولهذا الواجب أنَّ المسائل الغيبية لا تُحكَّم عليها العقول لأنَّ الله - عز وجل - أخبر بها فيؤخذ بها على ظاهرها، وكما ذكر شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وجماعة (بأنّ الشريعة تأتي بما تحار فيه العقول ولا تأتي بما تُحيله العقول) وهذه قاعدة مهمة في نظرك فيما يلتبس عليك، فإنَّ الشريعة تأتي بأخبار غيبية وبأشياء يحار فيها عقل الناظر لكن العقل الصريح الواضح السليم من الأهواء والآفات والذي يطبق القواعد الصحيحة تطبيقاً صحيحاً يخرج بأنَّ العقل لا يُحِيلُ هذه الأشياء؛ لكن يحار العقل في حقيقتها نعم، لأنَّ العقل إنما نَمَا بما شاهد، فالعقل تَنَوَّعَت إدراكاته ونما فيه أشياء بما شاهد {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:٧٨] ، هذه وسائل الإدراك، فعقل الطفل لم يكن شيئاً فنمت فيه الإدراكات بِما شاهد من القوانين، وأما ما لم يُشَاهد فإنه لم يدركه عقله لأنه لم يشاهده ولم يعرف حقيقته، فلهذا لا يسوغ له أن يَحْكُمَ على ما لم ير بما رأى وبما حَصَّلَهُ من معلومات نشأت معه من صغره إلى أن وصل إلى ما وصل إليه.
وعالم الغيب ليست قوانينه كعالم الشهادة، خذ مثلاً السموات وما فيها وبُعْدَها، وخذ مثلاً الشمس وبُعْدها وكيف تنير الأرض إلى آخره والقمر وحاله والخسوف والكسوف وأنواع ما يحصل، فإنَّ هذه عند من لا يعرف لا يدرك حقيقتها، وربما أدرك بعض الناس حقيقتها فأدركوا قوانين الرب - عز وجل - وسنة الرب - عز وجل - في بعض خلقه.
فإذاً نقول: [.....]
لهذا بنى ابن تيمية كتابه العقل والنقل الذي هو (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) أو (درء تعارض العقل والنقل) على هذه المسألة، وهي المسألة التي خالف فيها العقلانيون من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة إلى آخره وهذه من المسائل التي يذكرونها ويُشَنِّعُونَ أو يُؤَكِّدُونَ عليها.
ولاشك أنَّ كون القبر روضة أو حفرة هذا من عالم الغيب الذي لا يُدْرَكْ والإنسان تراه نائماً بجنبك وهو إما في نعيم أو في تألم وأنت لا تدري؛ بل ربما استغاث وهو نائم بالذي حوله ويسمع كلامه؛ لكنه لا يجاب لأنَّ عالمه ليس فيه إيصال الصوت إلى الآخر، وهكذا في أنواع مما يدل على هذا الأصل.
فإذاً الواجب في هذه المسائل التسليم بالغيبيات بما دلت عليه الأدلة، وأن لا يُقَاس عالم الغيب على عالم الشهادة، وأن لا يَعْتَرِضْ المرء بعقلياته على الشريعة بل يعلم ويُسَلِّمْ بأنَّ العجز عن الإدراك إدراك؛ لأنَّ الله - عز وجل - على كل شيء قدير.

<<  <   >  >>