للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] .

وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.


الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً، أما بعد:
مضى معنا طائفة من الكلام على الإيمان بقدر الله - عز وجل - خيره وشره، وأنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ من الله - عز وجل - فما يصيب العبد من خير فهو من الله - عز وجل - تقديراَ وتدبيراَ، وما يصيب العبد من شر وسوء فإنَّهُ من الله - عز وجل - تقديراً وتدبيراً.
ومَرَّ معنا مراتب الإيمان بالقَدَرْ وما يتصل بهذا المبحث مما فيه تقريرٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة، التي أَمَرَ الله - عز وجل - بالإيمان بها والتسليم لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فيها.
ومَرَّ معنا أيضاً أنَّ القدر سِرُّ الله - عز وجل - في خلقه، لم يعطِ حقيقته لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مُرْسَلْ، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يعلم كل شيء، وهو - عز وجل - الخالق لكل شيء، وهو سبحانه ذو الحكمة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] ونحو ذلك من المباحث والموضوعات التي سبق الحديث عنها، وسبق تقريرها على ما جاء في كتاب الله - عز وجل - وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومبحث القَدَرْ من المباحث العظيمة في الملة، ولأجل كونه سراً من أسرار الله - عز وجل -، وإدراك كُنْهِهِ وحكمة الله - عز وجل - في عباده غير متحققة من كل وجه، فلذلك صار الخائض في القدر بلا دليل عُرْضَةً لمزلة القدم؛ بل لم يخض في القدر أحد بغير حجة وبرهان إلا وزلَّتْ قدمه وتَنَكَّبَ سواء الصراط.
ولهذا ينبغي أن يُتكَلَمَ في القدر بما جاء في النص دون زيادة لأنَّهُ أمر غيبي، ولا يمكن للعبد أن يخوض في الأمور الغيبية إلا مع الدليل، ودون الدليل فهو كالذي يسير في الظلمات ليس بخارج منها.
والمخالفون في القَدَرْ كثيرون، ولهذا الطحاوي رحمه الله لم يُرَتِّبْ الكلام على مسائل القَدَرْ في موضعٍ واحد حتى يُمْكِنَ الناظر أن يبسط الكلام فيه بتقرير قول أهل السنة وقول المخالفين، وما يترتّب على ذلك؛ بل فَرَّقَهْ فأتى في آخر رسالته هذه بشيء من الكلام على القَدَرْ؛ لكن من جهة النظر إلى خلاف المخالفين.
ولهذا هذه الجمل التي معنا من قوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) إلى قوله (وفي دُعَاءِ الأَحْياءِ وَصَدَقَاتِهم مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَات) هذه كلها لأجل خلاف المخالفين من الجبرية والقدرية.
وقبل أن نخوض في بيان كلامه وما فيه من المسائل نُلَخِّصْ شيئاً من أسباب الضلال في القَدَرْ، والذي به خَرَجَ القدرية سواء الغلاة أم المعتزلة أو الجبرية أو من ضَلَّ في مسألةٍ أو في مسائل في هذا الباب. (١)
١- السبب الأول: هو ترك الاقتصار على ما جاء في الكتاب أو السنة من الواضحات المُحْكَمَات التي تُبَيِّنُ حقيقة القَدَرْ، والأخذ بما فيهما من المتشابهات وجعل ذلك أصلاً.
ومعلومٌ أنَّ الواجب على العبد أن يأخذ بالمُحْكَمْ وأن يَرُدَّ المتشابه إلى المحكم؛ فقد أمر الله - عز وجل - بذلك، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّةً على الصحابة وهم يتنازعون في القَدَرْ، كلٌّ يَنْزِعُ إلى قوله بآية، فكأنما فُقِئَ في وجهه حَبُّ الرُّمَان صلى الله عليه وسلم، يعني أحْمَرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهذا لأجل أنَّ الواجب على العباد أن يُسَلِّمُوا للمحكمات والأصول العامة وأن يَرُدُوا المتشابه إلى المُحْكَمْ على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
وبالتالي فإنَّ كل تفسيرٍ لآيات القَدَرْ لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضوان الله عليهم فإنَّهُ باطلٌ وضلال؛ لأنه من الأخذ بالمتشابه وترك المحكم.
٢- السبب الثاني: أنَّ العباد لم يعرفوا حكمة الله - عز وجل - في الأشياء ولا حِكْمَتَهُ فيما يُقَدِّرُ ويخلُقُ من الخير ومن الشر أو من المخلوقات بعامَّةْ، ولما لم يُدْرِكُوا الحكمة عارضوا فِعْلَ الله - عز وجل - في ملكوته بما يرون من ظاهر رأيهم.
فعارض الجاهل العالم واقتنع بجهله فصار على شُعْبَةِ ضلالة.
ومعلومٌ أنَّ حكمة الله - عز وجل - في خلقه منها ما هو مُدَلَّلٌ عليه، ومنها ما ليس بمعروف، ولذلك إذا جُهلت الحكمة فإنَّ المرء يُسَلِّمْ ولا يعترض. (٢)

: [[الشريط التاسع والثلاثون]] :

وقد ذَكَرَ جماعة من أهل العلم أنَّ سبب الضلال في القدر هو الجهل بحكمة الله فيما يخلق ويُقَدِّرْ، ثُمَّ الخوض في ذلك وقد لخَّصَها شيخ الإسلام بقوله فيما ذكرته لكم مراراً في تائيته حيث يقول:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ
فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
وهذا حق لأنَّ حِكْمَةَ الله غير معلومة؛ بل جَعَلَ الله - عز وجل - مثالاً لمن جَهِلَ حكمته في أنَّهُ حُرِم العلم، كقصة موسى مع الخضر عليه السلام، وهذا ظاهر بَيِّن لمن يتأمل سورة الكهف، فإنَّ موسى عليه السلام عارَضَ الخَضِرْ لظاهر رأيه، والخَضِرْ يعمل على ما أمر الله - عز وجل - بما يوافق حكمته، وهي الغاية المحمودة من وراء الأفعال، فلما عَارَضْ، كان ممن لم يستطع صبرا فَحُرِمَ العلم، قال {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٧٨] .
٣- السبب الثالث: هو قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال العباد فيما هو من قبيل العدل والظلم.
فنظروا إلى أفعال الرب - عز وجل - فجعلوا ما هو عَدْلٌ في تصرفات البشر واجِبَاً وعدلاً في تصرفات الرب - جل جلاله -، وجَعَلُوا ما هو ظلمٌ من تصرفات البشر محرّماً أو منفياً وظُلْمَاً في تصرف الرب - جل جلاله -.
وهذا هو ضلال القدرية المعروف حيث جعلوا العدل والظلم في تفسيرها في حق الله - عز وجل - كتفسيرها في حق المخلوق، فقاسوا هذا على هذا وضَلُّوا في هذا الباب؛ لأنَّ الخالق - عز وجل - لا يُقَاسُ على المخلوق في أفعاله وفي تدبيراته في ملكوته.
٤- السبب الرابع: إحداثُ ألفاظ ومصطلحات جُعِلَتْ أصلاً في هذا الباب، ثم حُمِل الكتاب والسنَّة عليها، مثل لفظ الاستطاعة بتفسيرهم، والطاقة، وما لا يطاق، والتكاليف وأشباه ذلك.
ومنها أيضاً عند الجبرية الكسب ونحوه.
ومن المعلوم أنَّ هذه الأمور الغيبية كالقَدَرْ الاصطلاح عليها بألفاظ وأسماء لمُسَمَيَّات لم يأتِ عليها برهان أنَّهُ يجعل المرء يُؤَصِلُ ويُقَعِّدْ بشيء لا أساس له.
ولهذا لَمَّا فهموا وظنوا من الشريعة أنَّهُ يُقال كذا، مثلاً الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، أو قالوا الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل -كما سيأتي-، أو قالوا الكسب هو الاقتران، أو قالوا كذا وكذا في تكليف ما لا يطاق -كما سيأتي الآن في هذه المواضع-، فسَّرُوها بتفسيراتٍ تَخُصُّهُم.
ولهذا ضَلُّوا في أصلٍ يجب الرجوع فيه إلى الدليل؛ لأنَّ إحداث لفظ وإحداث مصطلح لا شك أنَّهُ سيترتب عليه أشياء كثيرة.
وسيأتي الكلام على الكسب مثلاً وهو أنَّ الكسب مع وروده في الدّليل في قوله مثلا {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:٢٨٦] ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:٨٢، ٩٥] ، ونحو ذلك مع ورود لفظ كَسَبَ، يَكْسِبُ، والكَسْبْ فإنَّ التفسيرات تَنَوَّعَتْ فيه وأحدثوا له فهماً جديداً غير المراد بالكتاب والسنة، فصار ثَمَّ كَسْبْ عند الجبرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند القدرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند أهل السنة لأجل أنَّ هذا اللفظ في أصله وإن كان وارداً لكن جُعِلَ مُصْطَلَحَاً على فكرة جديدة توافق ما هم عليه.
فإذاً المصطلحات الجديدة في مسائل القَدَرْ هي سبب الافتراق فيه والضلال فيه، ولو أُلغِيَتْ هذه المصطلحات وبَقِيَ الناس على ما دلَّ عليه الدليل، فإنَّ كثير من الخلاف فيه سيذهب.
ولهذا عند النقاش والحوار مع المخالف في هذه المسائل سَيُبْحَثْ معه أصلاً في اللفظ وفي نشأته، ومن أين أتوا بهذه الألفاظ والتعريفات.
لهذا العلم بالقرآن والسنة حُجَّةْ على كل مخالفٍ أحدث المصطلحات؛ لأنَّ إحداث المصطلحات عقلي واتِّبَاعُ الكتاب والسنة نقلي، ولهذا يغلب النقل العقل الحادث والمصطلح عليه في هذه المسائل.
٥- السبب الخامس: من الأسباب التي أنشأت الخلاف والفُرْقَةْ في أبواب القَدَرْ، ما يَصْلُح أن يُقرًّرْ بأنْ نقول: إنَّ التساوي بين العباد في فعل الله - عز وجل - وادعاء أنَّهُم سواءْ في كل شيء -يعني فيما يفعل الله - عز وجل - بهم- هذا مع كونه مخالفة للدليل؛ لكنه نَشَأَ عنه تفريعات وأقوال جعلت الأقوال المخالفة في القَدَرْ كثيرة.
أعيد صياغة هذا السبب بأن نقول: من أسباب ومنشأ الضلال في القَدَرْ الحكم على أفعال الله - عز وجل - بأحكام من جهة النظر إلى الخلق، فجعلوا فعلاً لله - عز وجل - واجباً عليه بالنسبة للجميع، وجعلوا فعلاً لله - عز وجل - ممتنعاً عليه بالنسبة للجميع.
وسيأتي فيما سنذكر اليوم إن شاء الله أنَّ خلاف القدرية في مسألة الاستطاعة ناشئٌ عن أنهم قالوا: الواجب على الله - عز وجل - أن يجعل الناس سواسية فيما يُعطيهم، فكون هذا يُوَفَّقْ وهذا يُخْذَلْ هذا غير سائغ؛ لأنَّهُ تفريق، فإذا جعلنا الأصل هو أن يكون الناس سواسية، فإنَّ هذا قاعدة نبني عليها غيرها من مسائل القَدَرْ.
وهذا التقعيد أو هذه المقدمة نشأ عنها كثير من الخلاف، خاصَّةً عند المعتزلة، ولهذا نشأت أقوال كثيرة مُحْدَثة في القَدَرْ، وخلاف متنوع في المسائل العقلية، وما يجب على الرب - عز وجل - وما لا يجوز عليه.
وهذه تتضح أكثر ببحثنا في الاستطاعة إن شاء الله.
إذا تَبَيَّنَ هذا فالواجب في مسائل الغيب بعامَّة أن لا يُتجاوَزْ القرآن والحديث، وأن يُسَلَّمْ للدِّلَالَةْ، وإذا أشكل على المرء شيء فواجبٌ عليه أن يقول {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧] كما يقول الراسخون في العلم، مع أنهم يعلمون التأويل في كثير؛ لكن قد لا يعلمون التأويل في بعضٍ؛ يعني طائفة من الراسخين قد لا يعلمون ويعلمه غيرهم، فيقولون {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} .
أما ضرب النصوص بعضها ببعض، أو الأخذ بالمتشابه وترك المحكمات، أو قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال خلقه، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرنا، أو الخوض في الحِكَمْ والمصطلحات، فإنَّ هذا يُنْشِئُ الافتراق والضلال في هذا الباب لأنَّهُ أمرٌ غيبي بحت.
لهذا ما أحسن قول من قال -قول علي رضي الله عنه وقول غيره (القدر سر الله فلا تكشفه) . يعني لا تحاول كشفه فإنَّ من حاول كشفه لا شك أنَّهُ سيضل؛ لأنَّهُ سِرٌّ من الأسرار اختص الله - عز وجل - به.
هذه مقدمة للمسائل التي سيأتي بيانها إن شاء الله.

<<  <   >  >>