للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

أنَّ معرفة العبد المؤمن بحقيقة هذه الكلمة ومعنى توفيق الله - عز وجل - ومعنى الخذلان يُوجِبُ له أن ينطَرِحَ دائماً بين يدي ربه - عز وجل - متبرئاً من نفسه ومن حولها وقوتها ومن أن لا يكله الله إلى نفسه طرفة عين.

لهذا قال صلى الله عليه وسلم «ربي لا تكلني لنفسي طرفة عين» (١) يعني حتى في تحريك العين وفي طرفها لا تكلني إلى نفسي، وهذا من عِظَمِ معرفته صلى الله عليه وسلم بربه فهو أعلم الخلق بالرب - جل جلاله - وأخشاهم له - عز وجل - وأتقاهم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.

فلهذا إذا علمت معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى (التوفيق) ومعنى (الخذلان) فإنه يجب عليك أن تستحضر ذلك في كل حال، واستحضارك ذلك ومجاهدة نفسك على طلب التوفيق من الله - عز وجل - وعدم رؤية النفس وقوة النفس والرأي وما عندك من الأدوات والمال وما عندك من الأسباب، فإنَّ هذا من أسباب التوفيق.

فلا يُطْلَبُ التوفيق من الله - عز وجل - بمثل الانطراح بين يدي الله - عز وجل - في الحاجة إلى توفيقه - جل جلاله -، وإذا ظَهَرَ في العبد استغناء عن توفيق الله - عز وجل - ورؤية ما عنده فإنه يُخْذَلْ.

ألم تر إلى يوسف عليه السلام وهو الكريم ابن الكريم وهو نبي الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم حين كان في السجن وظَهَرَ له من السّبب ما ظهر في تفسيره للرؤية ونجاة السّجين من السجن بسبب تفسيره للرؤيا، {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} قال - عز وجل - {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [الكهف:٤٢] ، وهذا على أحد التفسيرين أنَّ الشيطان أنسى يوسفَ عليه السلام ذِكْرَ الله - عز وجل - في هذا الموطن والتَّعَلُّقَ به - عز وجل - وحده، لا نقصاً في مقام يوسف عليه السلام ولكنه بيانٌ لنوعٍ من الرسالة التي تُؤَدَّى بأقوال الأنبياء وبأفعالهم عليهم الصلاة والسلام.

فالعبد إذا التَفَتْ إلى غير الله - عز وجل - طرفة عين فإنه يُوْكَلْ إلى نفسه ويخرج متضرراً.

وهذا نبي الله - عز وجل - محمد صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة أخذ بالأسباب التي تُعِينُ على تحقيق المراد، الأسباب المشروعة التي تعين تحقيق المراد ولم يَرَ صلى الله عليه وسلم تلك الأسباب ولم تقم في قلبه بأنه يتَّكِلْ عليها صلى الله عليه وسلم وإنما فعلها لأنها مُقْتَضِيَة لحُدُوثِ مُسَبَّبَاتِهَا في العادة، فأتى برجل من المشركين هادٍ خرِّيت يعرف الطُرُقْ ليسير به صلى الله عليه وسلم بطريقٍ آخر في الهجرة حتى لا يعلم المشركون طريقه، وأيضاً أَمَرَ أسماء وأَمَرَ راعي الغنم أن يَمُرَّ بالغنم على مسيرهم حتى لا يَرَوا الأقدام، فكل الأسباب بُذِلَتْ؛ ولكنها لم تنفع حتى قام المشركون على رأس الغار على ظهر الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأبو بكر رضي الله عنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا) فقال له صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (٢)

حركة عين المشرك من أن يرى، هم كانوا يرون ما أمامهم من جهة الساحل.

حركة عين المشرك من أن يرى، كانوا يرون ما أمامهم جهة الساحل، حركة العين إلى أن ترى الأسفل، ترى موقع القدم، فيُبْصرون الغار ويبصرون النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه هذه لا حيلة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا حيلة لأبي بكرٍ بها ولا تنفع فيها الأسباب التي فُعِلَتْ؛ لكن بقي توفيق الله وعونه وحقيقة التوكل عليه - عز وجل -.

لهذا أَعْظِمْ في كل شأنٍ من شؤونك وخاصَّةً الهداية والتوفيق للصالحات وطلب العلم النافع والتوفيق للسنة والالتزام بها وملازمة هدي السلف الصالح ومُجَانَبَة طريق المخالفين للسنة والمخالفين لهدي السلف وهدي العلماء، دائماً إِلْجَأْ إلى ربك في تحصيله، فما طُلِبَ من الله - عز وجل - شيء وبوسيلة أعظم من مسيلة التبرؤ من الحول والقوة.

أسأل الله - عز وجل - أن يُفيض علينا من معرفته والعلم به وما به نزدلف إلى رضاه ونبتعد عمّا يسخط ويأبى إنه سبحانه جواد كريم.


(١) أبو داود (٥٠٩٠)
(٢) نهاية الوجه الأول من الشريط الأربعين، والحديث رواه البخاري (٣٦٥٣) / مسلم (٦٣١٩)

<<  <   >  >>