للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

وهي متصلة بهذا البحث، وهذا البحث من أصعب المباحث التي ستعرض لك في شرحنا لهذه العقيدة، لكن نعرضها بشيء من الوضوح والاختصار، وهو ما يسمى بمسألة التسلسل.

والتسلسل معناه: أنه لا يكون شيء إلا وقبله شيء تَرتَّبَ عليه، أو لا يكون شيء إلا وبعده شيء ترتب عليه.

والتسلسل على اعتبارات:

* الجهة الأولى المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل: التسلسل في صفات الرب - عز وجل -.

وللناس في التسلسل المتعلق بصفات الرب - عز وجل - مذاهب:

١ - المذهب الأول:

من قال إنَّ الرب - عز وجل - يمتنع تسلسل صفاته في الماضي، ويمتنع تسلسل صفاته في المستقبل:

فلا بد من أمد يكون قد ابْتَدَأَ في صفاته أو قد ابْتَدَأَتْ صفاتُه، ولا بد أيضاً من زمن تنتهي إليه صفاته، وهذا هو قول الجهمية -والعياذ بالله- وقول طائفة من المعتزلة كأبي الهذيل العلاَّف وجماعة منهم.

٢ - المذهب الثاني:

هو أنَّ التسلسل في الماضي ممتنع، والتسلسل في المستقبل لا يمتنع:

يعني أنَّ الاتصاف بالصفات لا بد أن يكون له زمن ابتدأ فيه، وهذا الزمن قريب من خلق هذا العالَم الذي تعلّقت به الأسماء والصفات أو الذي ظهرت فيه آثار الأسماء والصفات، وفي المستقبل هناك تسلسل في الصفات يعني عدم انقطاع للصفات، وهذا هو قول أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية.

٣ - المذهب الثالث:

المذهب الثالث هو مذهب أهل السنة والحديث وهو أنّ التسلسل ثابت في الماضي وثابت في المستقبل، وثبوته في الماضي غير متعلق بخَلقٍ تَتَسَلْسَلُ فيهم الصفات أو تظهر فيهم آثار الصفات، بل يجوز أو نقول بل تتنوع التعلقات باختلاف العوالم، وفي المستقبل - يعني في الآخرة- هو - عز وجل - آخر بصفاته سبحانه وتعالى، فهناك التسلسل في جهة المستقبل.

مقتضى القسمة أن يكون ثَمَّ قسم رابع: وهو أنه لا تسلسل في المستقبل وهناك تسلسل في الماضي.

هذا مقتضى السبر والتقسيم في القسمة، وهذا لا قائل به من المذاهب المعروفة، يعني لا يُعْرَفُ أنَّ أَحَدَاً قال بهذا القسم.

* إذا تبين لك ذلك، فهذه المسألة بُحثَتْ أولا -مسألة التسلسل- قبل بحث المسألة الأولى التي ذكرناها لكم من جهة مذاهب الناس في الصفات وتعلقها بالخلق - يعني الثلاثة المذاهب التي ذكرناها - فلما بُحِثَ التسلسل نتج منه البحث الأول.

ولهذا إذا أردت أن تفهم جهة التسلسل تفهم أثرها الذي ذكرته لك في الأول؛ لأنَّ كُلاًّ من هاتين المسألتين مرتبطٌ بالمسألة الأخرى.

* الجهة الثانية المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل: التسلسل في المخلوقات:

والتسلسل في المخلوقات للناس فيه مذهبان فيما أعلم:

١ - المذهب الأول:

تسلسل في الماضي، وهذا ممتنع عند عامة الناس إلا الفلاسفة الذين قالوا إنه لا عَالَم إلا هذا العالم، وأنَّ هذا العالم لم يزل في الماضي، وأنه ما من عِلَّة فيه إلا وهي مُؤَثرة لمعلول فيه أيضاً، وأنَّ هذا العالم ترتب التسلسل فيه الآخر عن الأول والثاني عما قبله وليس ثَمَّ غيره.

نقول إنَّ هذا من هذه الجهة عامة الناس عدا الفلاسفة على ما ذكرنا، يعني اتفق عليها المعتزلة وأهل السنة على أَنَّ التسلسل؛ تسلسل المخلوقات في الماضي أنه ممتنع إلا قول الفلاسفة.

والفلاسفة كما هو معلوم من قالوا بهذا القول خارجون عن الملة؛ لأنهم يرون قِدَمَ هذا العالم مُطْلَقَاً، وأَنَّ المؤثر فيه الأفلاك بِعِلَل مختلفة يبحثونها.

٢ - المذهب الثاني:

في المستقبل التسلسل في المخلوقات غير ممتنع عند الجمهور إلا في خلاف جهم وبعض المعتزلة في أنّ تسلسل الحركات والمخلوقات في المستقبل أيضا ممتنع وأنهم لا بد أن يصيروا إلى عَدَمٍ أو إلى عدم تأثير؛ إمّا عدم محض أو عدم تأثير.

* الجهة الثالثة المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل؛ تسلسل الأثر والمؤثر والسبب والمُسَبَّبْ والعلة والمعلول:

وهذا لابد من النظر فيه وأيضا نقول أشهر المذاهب فيه اثنان:

١ - المذهب الأول:

مذهب نفاة التعليل والعِلَلْ والأسباب الذين يقولون لا أثر لعلةٍ في معلولها، ولا أثر لسببٍ في مُسَبَبْ، وإنما يفعل الله - عز وجل - عند وجود العلة لا لكونها علة.

وهذا هو مذهب نفاة التعليل، كقول الآشاعرة، القدرية، وابن حزم، وجماعات.

٢ - المذهب الثاني:

أنَّ الأسباب تُنْتِجُ مُسبَّباتِها ويتسلسل ذلك، وأَنَّ العلة تُنْتِجُ معلولاً ويتسلسل ذلك - يعني جوازاً - ولكن ذلك كله بخلق الله - عز وجل - له، وأنّ التسلسل في الآثار ناتجا عن المؤثرات ليس لذاتها بل لسنة الله - عز وجل - التي أجراها في خلقه {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:٤٣] .

<<  <   >  >>