للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثالثة] :

دَلَّتْ الأدلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ تصديق الكاهن أو العراف محرَمٌ بل كفر، وعلى أنَّ إتيان الكهنة والعرافين فيها إثمٌ كبير.

فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة -ولم يسمها مسلم-؛ بل قال عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي حفصة أم المؤمنين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (١) .

وجاء في سنن أبي داوود حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (٢) .

وفي مسند الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (٣) . وإسناده صحيح.

فَدَلَّت هذه الأحاديث على أنَّ:

- إتيان الكاهن أو العراف منهي عنه.

- وأنَّ سؤاله كبيرة من كبائر الذنوب إثمها عظيم يَتَرتَبْ عليها أن لا تقبل للمرء صلاة أربعين ليلة من عِظَمِ الإثم.

- وأنه إن سَأَلَ فَصَدَّقْ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

إذا تبين ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم «من أتى عرافا فسأله عن شيء» هذا فيه عموم، (سأله عن شيء) يعني عن أي شيء سواءٌ أكَانَ فيما مضى عن ضالة أو عن شيءٍ مفقود أو عن شيءٍ في المستقبل فإنه لا تُقْبَلُ له صلاة أربعين ليلة.

وسبب ذلك أنَّ العراف لا يستدل على ما غاب بأمورٍ ظاهرة أو بتجربة أو بأسبابٍ معلومة، وإنما يستعين بالجن، والاستعانة بالجن شرك لأنَّ الجن لا يُعينون الإنسان إلا إذا تَقَرَّبَ إليهم وأعطى بعض العبادة لهم ومَكَّنَهُم ليستمتعوا به، كما قال - عز وجل - {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:٦] ، يعني زاد الجنيُّ الإنسيَّ رهقاً وإثماً وبلاءً.

«لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» اختلف العلماء هنا هل عدم القبول يعني الإجزاء ولكنه لا يثاب؟ أم أنها لا تقبل بمعنى أنها لا تُجْزِئُهُ لو صَلَّى ولكن يجب عليه أن يفعلها -يعني أن يقيمها-، وأنه لا يثاب عليها لأنها لم تُقْبَلْ منه؟

وهذا في نظائره في تفسيره (عدم القبول) هل عدم القبول يعني عدم الإجزاء أو عدم الثواب؟

والظاهر هنا أنَّ عدم القبول بمعنى عدم الثواب؛ لكنه إذا أَدَّاهَا سقط عنه الفرض، لإجماع الأمة أَنَّهُ لا يجب عليه أن يعيدها بعد اقتضاء الأربعين ليلة.

وأما تصديق الكاهن أو العراف -يعني إذا سَأَلَ كاهناً فَصَدَّقَه- فما في الحديث ظاهر وهو أنه قال «فقد كفر بما أنزل على محمد» هذا في حال السائل المُصَدِّقْ فكيف بحال الكاهن نفسه؟؟

يعني تُوُعِّدَ السائل الذي يسأل ويُصَدِّق أَنَّهُ قد كفر فكيف بالكاهن أو بالعراف؟

لهذا هنا مسألتان:

١ - المسألة الأولى: في حكم الكاهن أو العراف؟

والصحيح أنهم إذا استعانوا بالشياطين في ذلك، يعني لم يكونوا دجَّالين وإنما فعلاً يُخْبِرُونَ عن اسْتِعَانَةٍ بالشياطين فإنَّ هذا كفر، ويجب استتابتهم إنْ تابوا وإلا قُتِلُوا عند كثير من أهل العلم، على تفصيلٍ مَرَّ معنا في حكم الزنديق وأمثاله.

٢ - المسألة الثانية: في حال السائل؟

قال صلى الله عليه وسلم «فقد كفر بما أنزل على محمد» وهنا الكفر هل هو كفرٌ أكبر مخرج من الملة أم كفرٌ أصغر دون كفر؟ أم يُتَوَقَّفْ فيه فلا يُقَالُ كفرٌ أكبر ولا كفرٌ أصغر لعدم الدليل على ذلك؟

ثلاثة أقوال لأهل العلم:

@ من أهل العلم من المعاصرين وممن قبلهم من قال أنه كفرٌ أكبر لظاهر قوله «فقد كفر» ، ويُفْتِي به عدد من مشايخنا هنا.

@ ومن أهل العلم من يقول هو كفرٌ دون كفر، وهذا أظهر من حيث الدليل لأمرين:

& الأمر الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أحمد قال «من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فَصَدَّقَهْ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» فرتَّبَ عدم قبول الصلاة على السؤال والتصديق معاً ولو كان السائل الذي صَدَّقَ كافراً فإنه لا تقبل صلاة حتى يتوب دون تحديدٍ لمدةٍ معلومة.

& الأمر الثاني: أنَّ الناس يُصَدِّقُونَ العراف والكاهن لا على اعتبار أنهم يَدَّعُونَ علم الغيب وأنهم ينفُذُونَ على علم الغيب بأنفسهم؛ ولكن يقولون: هذا -يعني ربما قالوا- هذا ممن اخْتَرَقَتْهُ الشياطين.

فيكون لهم شبهة في ما يُصَدِّقُونَ به، وهذه الشبهة تمنع من أن يعتقدوا فيهم أنهم يعلمون علم الغيب مطلقاً.

وهذا يكثر في حال من يُصَدِّقْ من ينتسبون إلى الصلاح أو يظهر عليهم الوَلَايَةْ والصلاح ويُخْبِرُونَ بالمغيبات، والناس يصدقونهم على اعتبار أنهم يُحَدَّثُونَ بذلك، ولهم في ذلك -كما ذكرنا- شبهة وهذه تمنع من إخراجهم من الملة والكفر الأكبر.


(١) مسلم (٥٩٥٧)
(٢) أبو داود (٣٩٠٤) / الترمذي (١٣٥) / ابن ماجه (٦٣٩)
(٣) المسند (٢٣٢٧٠)

<<  <   >  >>