للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال (لا) يعني يرى من يخالف السنة ويذهب إلى قولٍ آخر، تعرفون المدينة كان فيها مدرسة الرأي ربيعة الرأي ومن معه، مدرسة قريبة من مدرسة الكوفة في الأخذ بالرأي وعدم العلم بتفاصيل السنة، فقيل له: (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عنها؟)

قال (لا، يُخْبِرُ بالسنة، فإن قُبِلَتْ منه وإلا سكت) (١) .

لماذا؟

لأنَّ الشيطان يأتي فيجعل الإنسان ينتصر لنفسه لا للسنة، وهذا مَسْلَكٌ شائك في النفوس، ويُنَافي الإخلاص وينافي ما يجب، فيبحث فإذا هو يريد ينتصر للحق ثم تنقلب المسألة في النقاش أو في المجادلة أو في الإخبار بالصواب إلى انتصارٍ للنفس دون انتصارٍ للحق وهذا مما ينبغي تداركه.

ومما يدخل أيضاً في مثل هذا أنَّ اختلاف الفقهاء في المسائل العملية اختلافٌ كبيرٌ جداً، حتى إنَّ المسائل المُجْمَعْ عليها قليلة، وليس كل قولٍ من الأقوال المختلفة يصحُّ أن يكونَ في الخلاف المعتبر، كما قال أحد مشايخ السيوطي في قصيدةٍ في بعض علوم القرآن:

وليس كل خلافٍ جاء مُعْتَبَرَاً ****** إلا خلافٌ له حظٌ من النظر

وإذا وقع الخلاف فإنَّ الخلاف على نوعين:

- خلافٌ قوي.

- وخلافٌ ضعيف.

@ والخلاف القوي ضابطه: ما كان الخلاف فيه في فهم الدَّليل ولا مُرَجِّحْ.

@ والخلاف الضعيف: ما كان الخلاف فيه بمخالفة الدليل أو بالغَلَطِ في فهم الدليل.

والخلاف القوي لا إنكار فيه، فإذا كانت المسألة فيها خلافٌ قوي فلا عَتْبَ من الأصل لمن أَخَذَ بأحد القولين، أخذ بهذا وأخذ بهذا، هذا يرى كذا وهذا يرى كذا، المسألة فيها سَعَة.

وأما الخلاف الضعيف فإنَّهُ فيه الإنكار.

وقول العلماء (لا إنكار في مسائل الخلاف) يعنون به الخلاف القوي على الصواب دون الخلاف الضعيف، لأنَّ الخلاف الضعيف خلافٌ بلا دليل أو غَلَطٌ في فهم الدليل.

ويشتبه هذا -يعني الخلاف- يشتبه بمسألةٍ مهمة وهي مسائل الاجتهاد.

* والصواب: التفريق ما بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد.

فمسائل الخلاف التي مرجعها الخلاف في فهم الأدلة، وهذه هي التي فيها التفصيل الذي ذكرت لك: في أنَّ الخلاف القوي لا إشكال فيه، وأَما الخلاف الضعيف يلزم فيه البيان والإيضاح بدون أن يُحْدِثَ الفُرْقَةَ وتنافر القلوب.

أما المسألة الثانية وهي مسائل الاجتهاد: فهي الاجتهاد في النوازل.

إذا نَزَلَتْ نازلة واجتهد العلماء فيها، هل هذه تُلْحَقْ بكذا وهذه تُلْحَقْ بكذا فإنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد.

وشيخ الإسلام ابن تيمية قال في بعض كلامه (لا إنكار في مسائل الخلاف يُعْنَى بها مسائل الاجتهاد) ، -أو نحو كلامه أنا أصوغه بفهمي-؛ لأنَّ مسائل الاجتهاد ليست هي مسائل الخلاف.

ولا إنكار في مسائل الخلاف يعنون بها لا إنكار في مسائل الاجتهاد.

وهذا يحتاج إلى زيادة وهي أنَّهُ: لا إنكار في مسائل الخلاف، يعنون بها الخلاف القوي.

أما مسائل الاجتهاد التي تحدث في الناس فهذه لا إنكار فيها من باب أولى؛ لأنَّ كل مجتهد له اجتهاده ونصيبه في إِلحاقِ النازلة ببعض الأصول والقواعد التي تدل عليها.

* نختم هذا الموضع بوصية في هذا الموطن: بأَنَّ طالب العلم يَتَّسِعْ صدره للعلم، وهذا إذا حباك الله - عز وجل - اتساع الصدر في العلم فإنَّكَ تُؤْتَى عِلْمَاً جديداً، وهذا هو الواقع والمُشَاهَدْ، أما من يضيق بالأقوال أو من يضيق باختلاف العلماء ولا يبحث في مَأْخَذِ هذا ومأخذ هذا، وإذا أورَدَ عليه أحد قولاً نَظَرْ في كلامه وتَأَمَّلْ فإنه يُحْرَمْ بعض العلم.

لهذا كلما اتسع صدر طالب العلم كلما أُوتِيَ الصواب في العلم، وأُوتِيَ الصواب أيضاً في العمل، في عدم التعدي على المسلمين والتعدي على العلماء أو على طلبة العلم أو نحو ذلك، والله - عز وجل - يقول لعباده: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:٥٣] ، والفُرْقَة والخلاف يحصل فيه التعدي في كثيرٍ من الأحيان، ولا يقول: العبد التي هي أحسن، والله - عز وجل - أمر بأن تقول التي هي أحسن.

وأنا ألحظ وربما منكم كثير لَحَظُوا أنَّ أحداً منا قد يقول قولاً يكون غير واضح، فيأتي أحد ويعترض عليه فهو يتألم ويتَحَرَّجْ لنفسه أنه أخطأ أو أنه ما أدرك الصواب، فيأتي الشيطان فيصرِفُهُ من تقرير المسألة إلى وجود مَخْرَجٍ لنفسه.

وهذه من وسائل الحرمان، وإذا قوَّى الله طالب العلم على أن يكون قَوِيَّاً على نفسه في أنه إذا ما اتضحت له صورة المسألة:

لا يتكلم فيها، ينتظر، يسكت.

يُعَلِّمْ نفسه التؤدة، يُعَلِّمْ نفسه عدم الاستعجال في الكلام، عدم إلقاء الكلام على عواهنه، الدقة في الألفاظ، كيف يُعَبِّرْ عن المسائل.

وإذا غلط يقول: غلطت -ما أسهل منها عند من يرى تحقيق الحق- فعلاً.

يقول: أنا ما فهمت، أنا ظهر لي كذا، يبدو أنه انحرف ذهني إلى شيء آخر.

يقول: أنا ما فهمت، أنا غلطت، ما أسهل منها.

وهل من شرط طالب العلم ألا يخطئ؟!

ليس من شرطه.

إنما من قَلَّتْ غلطاته سواءً في قوله وفي عمله فهو السديد، وهو الذي يُثْنَى عليه.

أما أَنَّهُ يأتي أحد لا يخطئ لا يغلَط فيما يتكلم لا يغْلَطْ في تعامله، هذا لا يمكن.

النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق قال «اللهم أيما عبدٍ سببته أو شتمته فاجعلها عليه رحمة» (٢) .

يعني من مقتضى الطبيعة أنْ يغلط الإنسان، فالإنسان لا يتحمل.

لكنه من يَتَصَبَّر يُصَبِّرُهُ الله، ومن يَتَحَلَّم يعطيه الله - عز وجل - الحلم.

لهذا عَوِّدْ نفسك على الحلم عَوِّدْ نفسك على الصبر، عَوِّدْ على ألا تنتصر لنفسك في المسائل العلمية.

حتى لو جاء المُقَابِل وطعن في علمك، طعن في طريقة الإيراد، لا تتأثر بهذا واجعل الكلام على العلم لأنك مُبَلِّغ للعلم ولستَ منتصراً لنفسك، والمنتصر لنفسه يَحْرِمْ نفسَه انتصار الله - عز وجل - له.

أسأل الله - عز وجل - أن يمنحني وإياكم العلم والحلم والفقه في الدين، وأن يمنّ علينا بسلوك طريق السلف الصالحين، إنه سبحانه جوادٌ كريم، وهو ذو الفضل والإحسان والمنن والعطايا، اللهم فلا تحرمنا فضلك بذنوبنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك على كل شيءٍ قدير.


(١) سبق ذكره (٣٣٤)
(٢) مسلم (٦٧٨١) / أبو داود (٤٦٥٩)

<<  <   >  >>