للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بسوق عكاظ من أدم، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها؛ فأتاه الأعشى، فكان أول من أنشده. ثم أنشده حسان بن ثابت قصيدته التى منها:

لنا الجفنات الغرّ ...

وذكر البيتين، فقال النابغة: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.

قال الصولى: فانظر إلى هذا النقد الجليل الذى يدلّ عليه نقاء كلام النابغة، وديباجة شعره؛ قال له: أقللت أسيافك؛ لأنه قال: «وأسيافنا» وأسياف جمع لأدنى العدد، والكثير سيوف. والجفنات لأدنى العدد، والكثير جفان. وقال: فخرت بمن ولدت؛ لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرّق. فترك الفخر بآبائه وفخر بمن ولد نساؤه.

قال: ويروى أنّ النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك. يريد قوله: لنا الجفنات الغرّ. والغرّة لمعة بياض فى الجفنة؛ فكأن النابغة عاب هذه الجفان، وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض؛ فجعلها بيضا كان أحسن.

فلعمرى إنه أحسن فى الجفان إلا أنّ الغرّ أجلّ لفظا من البيض.

قال الشيخ أبو عبيد الله المرزبانى رحمه الله: وقال قوم ممن أنكر هذا البيت فى قوله:

يلمعن بالضّحى، ولم يقل بالدّجى، وفى قوله: وأسيافنا يقطرن، ولم يقل يجرين؛ لأن الجرى أكثر من القطر.

وقد ردّ هذا القول؛ واحتجّ فيه قوم لحسّان بما لا وجه لذكره فى هذا الموضع.

فأما قوله: فخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك فلا عذر عندى لحسّان فيه على مذهب نقّاد الشعر.

وقد احترس من مثل هذا الزّلل رجل من كلب؛ فقال يذكر ولادتهم لمصعب بن الزبير وغيره ممن ولده نساؤهم:

وعبد العزيز قد ولدنا ومصعبا ... وكلب أب للصالحين ولود

<<  <   >  >>