للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم تكن هذه المحاولات قاصرة على اليهود، بل حتى كفار قريش كانوا مستمرين في ذلك؛ فـ (عن ابن شهاب قال: لما رجع كل المشركين إلى مكة، فأقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحِجْر، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر. قال: أجل والله ما في العيش خير بعدهم، ولولا دين عليَّ لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئا، لرحلت إلى محمد فقتلته إن ملأتُ عيني منه، فإن لي عنده علة أعتل بها عليه، أقول قَدِمْتُ من أجل ابني هذا الأسير. قال: ففرح صفوان وقال له: عليَّ دينُك وعيالك أسوة عيالي في النفقة، لا يسعني شيء فأعجز عنهم. فاتفقا وحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصُقِلَ وسُمَّ، وقال عمير لصفوان: اكتم خبري أياما. وقدم عمير المدينة فنزل بباب المسجد وعقل راحلته، وأخذ السيف وعمد إلى رسول الله (، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع ودخل إلى رسول الله (، فقال: يا رسول الله لا تأمنه على شيء. فقال: «أدخله علي» . فخرج عمر فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله (ويحترسوا من عمير، وأقبل عمر وعمير حتى دخلا على رسول الله (ومع عمير سيفه، فقال رسول الله (لعمر: «تأخر عنه» . فلما دنا عمير قال: أنعموا صباحا -وهي تحية الجاهلية -فقال رسول الله (: «قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا تحية أهل الجنة وهو السلام» . فقال عمير: إن عهدك بها لحديث. فقال: «ما أقدمك يا عمير؟» . قال: قدمت على أسيري عندكم، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل. فقال: «ما بال السيف في عنقك؟» . فقال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا، إنما نسيته في عنقي حين نزلت. فقال رسول الله (: «اصدقني ما أقدمك يا عمير؟» . قال: ما قدمت إلا في طلب أسيري. قال: «فماذا شرطت لصفوان في الحجر؟» . ففزع عمير وقال: ماذا شرطت له؟ قال: «تحملت له بقتلي على أن يعول أولادك، ويقضي دينك، والله حائل بينك وبين ذلك» . فقال عمير: أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحِجْر -كما قلتَ-لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق.

ففرح به المسلمون وقال له رسول الله (: «اجلس يا عمير نواسك» . وقال لأصحابه: «علموا أخاكم القرآن» . وأطلق له أسيره، فقال عمير: ائذن لي يا رسول الله، فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم، فأذن له فلحق بمكة، وجعل صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر. وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة هل كان بها من حدث، حتى قدم عليهم رجل فقال لهم: قد أسلم عمير. فلعنه المشركون وقال صفوان: لله عليَّ إلا أكلمه أبدا ولا أنفعه بشيء. ثم قدم عمير فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجهده، فاسلم بسببه بشر كثير) (١) .

وغير ذلك من المحاولات التي باءت بالفشل، مما يدل على صدق قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: ٦٧] . وهذا يدل على صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأنه محفوظ من كل أذى حتى يبلغ دين الله كاملا، لذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يدخل في فم الأسد -كما يقال- وهو مطمئن القلب رابط الجأش، كما فعل في حنين وأحد وغيرها من المعارك، ومنع الناس من حراسته لما علم بحفظ الله، وفي حادثة الهجرة عندما طوق المشركون الغار، ولم يكن بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا أن ينظر أحدهم إلى قدمه، في هذه الحال العصيبة أحس النبي (صلى الله عليه وسلم) بتوتر أبي بكر الصديق (وشدة اضطرايه وخوفه فقال له: «لا تحزن إن الله معنا» (٢) .


(١) الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر (٤/٧٢٦) وذكر أنه أخرجه موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب مرسلا، وابن إسحاق في المغازي عن محمد بن جعفر مرسلا أيضا، وجاء موصولا أخرجه ابن مندة والطبراني عن أنس، مما يدل أن للقصة أصلا.
(٢) أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم:٣٦١٥) .

<<  <   >  >>