للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:٤٠] .

أي ثبات هذا وأي قلب يستطيع أن يهدأ في مثل هذا الموقف؟ إنها حقا النبوة.

ومن هذا الباب قول الله تعالى عن نوح (: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس:٧١] .

وقول هود (: { ... قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٤-٥٦] .

[المطلب العاشر: انتفاء الغرض الشخصي:]

من أدلة صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) عدم إرادة المصلحة الشخصية لنفسه من هذه الدعوة؛ وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل بقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦] .

وهذا على خلاف أصحاب المذاهب والأفكار الباطلة والدجالين والكذابين؛ فإنهم يسعون لتحقيق مصالح شخصية ومآرب ذاتية من جاه ومال ونساء واتباع ومنصب وشهرة وغير ذلك، بينما لا تجد هذا في النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فهو من أفقر الناس؛ حيث كان تمر ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نار، وإنما كان طعامه التمر والماء (١) ، وتأتي الفقيرة إلى بيت رسول الله، فلا تجد عائشة (إلا تمرة واحدة فتعطيها إياها (٢) ، وأحيانا يأتي الفقير فيرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى بيوته التسعة، فلا يجد فيها شيئا حتى التمرة، ليس في بيوته التسعة إلا الماء (٣) .

ولقد خَيرَّه ربه بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ (فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» (٤) .

وكان أزهد الناس في الدنيا وزخرفها، عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ (٥) حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا (٦) مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ (٧) مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ» (٨) .


(١) متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب الهبة، باب الحديث، رقم:٢٥٦٧، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب منه، رقم:٢٩٧٢) .
(٢) متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، رقم:١٤١٨، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب فضل الإحسان إلى البنات، رقم:٢٦٢٩) .
(٣) متفق عليه عن أبي هريرة (البخاري: كتاب المناقب، باب قول الله: (ويؤثرون على أنفسهم ... ) ، رقم:٣٧٩٨، ومسلم: كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، رقم:٢٠٥٤) .
(٤) أخرجه الإمام أحمد (٧١٢٠) صححه الألباني في السلسة الصحيحة (٣/٣) رقم: ١٠٠٢.
(٥) الأدم: الجلد. مختار الصحاح (١/٤) .
(٦) القرظ: ورق شجر يُدبغ به. لسان العرب (٧/٤٥٤) .
(٧) أَهَب: جمع إهاب وهو الجلد ما لم يدبغ. لسان العرب (١/٢١٧) .
(٨) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله (تبتغي مرضات أزواجك..) ، رقم:٤٩١٣، ومسلم: كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، رقم:١٤٧٩) .

<<  <   >  >>