للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وجاءته فاطمة ابنته تسأله خادما من السبي، فوزعه النبي (صلى الله عليه وسلم) على الناس، ولم يعط فاطمة منها شيئا، مع شدة حبه لها وشدة حاجتها له:

عن عَلِيًّ قَالَ: شَكَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ (مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى، فَأُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ، فَلَمْ تَرَهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ (أَخْبَرَتْهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا» . فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» (١) .

وفي روايةِ أبي داود قَالَ عَلِيٌّ لِابْنِ أَعْبُدَ: أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَتْ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ عِنْدِي فَجَرَّتْ بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ بِيَدِهَا، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا وَقَمَّتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا وَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ، فَسَمِعْنَا أَنَّ رَقِيقًا أُتِيَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ فَقُلْتُ: لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِيهِ خَادِمًا يَكْفِيكِ. فَأَتَتْهُ فَوَجَدَتْ عِنْدَهُ حُدَّاثًا (٢) فَاسْتَحْيَتْ فَرَجَعَتْ، فَغَدَا عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي لِفَاعِنَا (٣) ، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا فَأَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي اللِّفَاعِ حَيَاءً مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ: «مَا كَانَ حَاجَتُكِ أَمْسِ إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ؟» فَسَكَتَتْ مَرَّتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ هَذِهِ جَرَّتْ عِنْدِي بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ فِي يَدِهَا، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَاكَ رَقِيقٌ أَوْ خَدَمٌ، فَقُلْتُ لَهَا: سَلِيهِ خَادِمًا ... ) (٤) . فانظر كيف قسم النبي (صلى الله عليه وسلم) السبي ولم يعط فاطمة منه شيئا! .

فالنبي (صلى الله عليه وسلم) قبل النبوة كان له مكانة عظيمة في قومه، ولا ينادونه إلا الأمين والصادق، وإذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه (٥) ، وكان متزوجا من امرأة غنية، وله أعرق نسب في قريش، فعنده المال والمرأة الجميلة والمكانة المرموقة والسمعة الطيبة والنسب الشريف، فكيف يترك هذا كله ويحارب الناس أجمعين، ويكفرهم إلا من كان على طريقته، ويحارب الناس ويقول لقريش: «جئتكم بالذبح» (٦) . وترميه العرب عن قوس واحدة، ثم بعد هذا كله ليس له من فعله أي مصلحة دنيوية لا له ولا لأبنائه ولا لأهله، بل حتى لما مات لم يُعْطِ الخلافة لأحد قرابته، فما كان لرجل يترك الكذب أربعين سنة، حتى صار طبعا له وسجية من سجاياه الثابتة التي يصعب انتزاعها منه، بل حتى لو أراد الكذب لأبت عليه طباعه وسجاياه ذلك، ثم بعد هذا التاريخ الطويل والسمعة السامية يقوم وينتحل الكذب، وليس أي كذب بل أشد أنواعه وهو الكذب على الله تعالى، وهو مع هذا لا يهدف لمصلحة ولا لغرض شخصي؟ إن هذا لا يمكن أن يتصوره عاقل.

إن عدم رغبة النبي (صلى الله عليه وسلم) في متاع الدنيا دليل أنه إنما فعل هذا طاعة لله، بوحي منه سبحانه.


(١) متفق عليه (البخاري: كتاب فرض الخمس، باب الدليل أن الخمس لنوائبه، رقم:٣١١٣،ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم:٢٧٢٧) .
(٢) أي رجالا يتحدثون (انظر: عون المعبود في شرح سنن أبي داود للعظيم أبادي (٨/١٤٩) ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي،١٩٩٠) .
(٣) أي في غطائنا، فاللَّفاعُ ما يجلَّل به الجسدُ كلُّه، كِساءً كان أو غيره. (الوسيط ل ف ع)
(٤) أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، رقم:٥٠٦٢) .
(٥) كما حصل عندما اختلفت قريش عند بناء الكعبة، فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه، فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففض الخصام بأن بسط عباءته ووضع الحجر الأسود عليها، وأمر كل رأس قبيلة أن يأخذ طرفاً من أطراف العباءة، فحملوه كلهم حتى وضعوه في مكانه. (انظر الرحيق المختوم، (ص:٥٨) .
(٦) أخرجه الإمام أحمد (رقم:٦٩٩٦) وإسناده صحيح.

<<  <   >  >>