للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من أدلة صدق النبي صلي الله عليه وسلم إخباره بالغيب سواء كان غيباً لاحقاً أو سابقاً أو حاضراً فقد أخبر بالردة في زمن أبي بكر (، والفتنة في زمن علي (، وأخبر بأن الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلي يقُتلون شهداء، وأخبر بفتح القسطنطينية والحيرة ومصر وفارس والروم وبيت المقدس، وبأويس القرني، وأخبر بخروج كثير من الفرق كالخوارج والقدرية، وبشر كثير من الصحابة بالجنة فماتوا على الإيمان، وبشر الكثير بالنار فماتوا على الكفر، وأخبر بكثير من أشراط الساعة الصغرى (١) وقد تحققت.

ولم تتحقق هذه الأمور إلا بعد موته، ومثل هذا لا يمكن، إن يكون إلا بوحي.

ومثل هذا أيضا إخباره بالغيب الماضي، كقصص السابقين والأنبياء وبني إسرائيل، فهذه الغيبيات الماضية ليس لها مقدمات يستدل بها عليها، ومع هذا أخبر بها النبي (صلى الله عليه وسلم) موافقة للواقع، قد يقول قائل: إنه قرأ التاريخ. قلنا: إنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولو سلمنا بهذا، فإنه كان يخبر بالغيب الحاضر أيضا، كإخباره الصحابة بغزوة مؤتة وهو في المدينة، وهي قريب من الشام، فعَنْ أَنَسٍ (: أَنَّ النَّبِيَّ (نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ -وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ- حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» (٢) . وعندما جاء رسول كسري إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليتوعده ويتهدده قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : «إن ربي قتل ربكما» فنظروا فإذا بكسرى مات في ذلك اليوم (٣) ، ومثل هذا ليس له مقدمات تدل عليه، ولم يكتب بعد في أي كتاب، ولكنها النبوة.

المطلب الثالث عشر: إحكام التشريع (٤) :

لا يوجد قانون في الإحكام والتنظيم مثل التشريع الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فإن شريعته جاءت لتسد حاجة الإنسان في كل نواحي الحياة، وتبين الحكم في كل ما يحتاج الإنسان، وتنظم حياة المسلم من ولادته إلى موته؛ تسير معه جنبا إلى جنب ترعاه وتحضنه وتقومه وتسدده وتبصره وتهديه {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٩٧] ، شريعة كاملة، فيها من اللين واليسر والموافقة للعقل ما يجعل كل من يلتزم بها سعيدا فخورا، وفيها من المرونة ما يجعلها تصلح لكل زمان ومكان وأمة، لا تميز بين الناس في الأحكام، فالعدل أساسها والحكمة نبراسها.

على حين لا تجد هذا في كل شريعة وقانون وضعي، ولا يعرف هذا حق معرفته إلا القانونيون والمطلعون على القانون الوضعي، فهو يعدل في كل سنة عدة مرات، والقانون لو نجح في بلد فإنه قد لا ينجح في بلد آخر، ولو صلح في وقت فقد يكون وبالا في وقت آخر، وانظر ماذا فعلت الشيوعية الحمراء (٥) بأهلها التي لم يلتزم بها من التزم إلا بعد جريان أنهار الدم، واستخدام أبشع أنواع التعذيب، ثم سقطت إلى الهاوية وألقيت في زبالة التاريخ غير مأسوف عليها.

ولم يستطع أحد أن يأتي بشريعة تخدم الإنسان في جميع شؤون حياته، فقصارى جهد من وضعها أن تكون فكرة في مجال معين؛ ففي الاقتصاد برزت الاشتراكية والرأسمالية، فالأولى قتلت الإبداع وساوت بين النشيط والخامل، وبين المضحي واللامبالي، والذكي والغبي (٦) . والأخرى جعلت شعوبها شعوبا طبقية ما بين كل طبقة وطبقة مفاوز، فبعض الطبقات طبقة مسحوقة لا تجد قوت يومها، وبعضهم يتمتعون بكل متاع الدنيا، وليس على هؤلاء حق لأولئك (٧) .


(١) انظر الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي، باب الإخبار عن أمور مستقبلية (ص:٣٩٩-٥٤٠) .
(٢) أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب مناقب خالد بن الوليد، رقم:٣٧٥٧) .
(٣) انظر: " الخصائص الكبرى " للسيوطي (٢/١٤) باب ما وقع عند كتابه إلى كسرى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٨٥
(٤) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:٤٧)
(٥) القرآن وإعجازه التشريعي، لمحمد إسماعيل إبراهيم، ص ٣١، دار الفكر العربي، القاهرة.
(٦) القرآن والسنة والعلوم الحديثة، لمحمد أحمد مدني، ص ١٠١، مبحث الماركسية وتناقضاتها
(٧) انظر: الموسوعة المسيرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (٢/٩٢٠)

<<  <   >  >>