للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

* ووصف الجنة وصفا هو في غاية من الدقة والاستثارة والتشويق، بحيث لا تتمالك نفسك إذا سمعت هذا الوصف أن تقول: اللهم اجعلني من أهلها ولا تحرمني دخولها (١) . لكنك عندما تسمع لكثير من الفلاسفة في وصف ما سموه (بالمدينة الفاضلة) ستضحك من قصور وصفهم، وسذاجة تفكيرهم، وسترى البون الشاسع والفرق الواسع بين وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصف هؤلاء، وهم معذورون؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأت به من عنده بل من الوحي.

* وأما وصفه النار، فهو وصف بليغ، يقذف في قلبك الخوف والفزع والرهبة من هذه الدار.

يقول جفري لانغ: (عندما يترجم كتاب مقدس إلى لغة ما، فإنه ينجم عن ذلك ضياع كبير في المعنى، ولكن إذا كان دافع المترجم الالتزام والتقوى، فقد يشع في النص المترجم بيرق مقدس، لا يمكن أن تقيده حدود الإنسانية، وعلى الرغم من أن القرآن بالتأكيد هو أشد تأثيرا على القارئ في اللغة الأصلية (العربية) من الترجمات، إلا أن شيئا من الروعة والرهبة والجمال والإشراق من التصوير الفني القرآني قد يحيى في الترجمة، ليثير في النفس انعكاسا عميقا، كالمشاهد التصويرية والمرعبة للنار على سبيل المثال ... إلى أن قال: وعلى الرغم من أن جميع معتنقي الإسلام الغربيين، مجبرون على الاعتماد على التفسير للقرآن، إلا أني واثق من أن جميع هؤلاء قادرون على التمييز والانتباه إلى أن أكثر ما يثير الإعجاب بالقرآن هو أسلوبه الأدبي؛ لأنه يغرس في قارئه ذلك الشعور اللاملموس من أنه صادر عن وحي سماوي) (٢) .

[المطلب السادس عشر: تأليف قلوب العرب:]

لقد كان العرب قبل الإسلام قبائل متنازعة متناحرة، لا هم لها إلا المفاخرة والتعالي على بعض، تشتعل الحرب بينهم لأتفه أمر، وقد تستمر الحرب بينهم لعشرات السنوات لأجل ناقة - على سبيل المثال - كما حصل في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة بين تغلب وبكر ابني وائل؛ لأن كليب بن ربيعة التغلبي قتل ناقة البسوس خالة جساس بن مرة الكلبي (٣) .

وحرب داحس والغبراء التي كانت بين قبيلتي عبس وذبيان، لخلاف على سباق خيل بين فرسين - وهما داحس والغبراء - واستمرت هذه الحرب اربعين سنة أيضاً، وشارك في بعض حروبها عنتر، وذكرها زهير بن أبي سلمى في معلقته (٤) .

فهذه النفوس كان فيها من الأنفة، وعدم الرضا بالضيم والحمية القبلية، مما يجعلها أصعب ما يكون للاتحاد وجمع الكلمة، فالقدرة على جمع كلمة العرب قاطبة بقبائلها المتنافرة، وإسقاط ما في نفوس بعضهم لبعض من البغض والثأر من رجل واحد، أمرُ يكاد يصل إلى حد الإعجاز، قال تعالي ممتنًا على هذه الأمة بهذه النعمة: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران:] وقال سبحانه مبيناً صعوبة تأليف القلوب: { ... هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال: ٦٢، ٦٣] ، فكانوا بعد هذا التآلف قوة ضاربة أسقطت فارس والروم، وقد تلمح بعض الشعراء هذا المعنى فقال:

هل تطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأحداث أحياه

فكانوا يداً في الحرب واحدة من خاضها باع دنياه بأخراه

[المطلب السابع عشر: الإلزام:]

نريد أن نسأل اليهود: كيف آمنتم برسولكم موسى عليه السلام؟

فإن قالوا: بسبب معجزاته، أو أخلاقه، أو تشريعه، أو تأييد الله له ونصرته، أو استجابة دعائه، أو عدم رغبته في المصلحة الذاتية، أو غير ذلك من الأدلة.

قلنا: كل ما ذكرتموه هو موجود في النبي (صلى الله عليه وسلم) .

وكذلك النصارى نسألهم هل هم يؤمنون بنبوة موسى (٥) عليه السلام؟، فإن الجواب سيكون: نعم. قلنا: كيف استدللتم على نبوته؟ . فإن قالوا: لأنه قد ذكره لنا عيسى.

قلنا: هل هناك دليل آخر؟ .


(١) وكانت رسالتي في الماجستير بعنوان "اليوم الآخر في القرآن"، وعقدت فيها فصلا عن الجنة ووصفها استغرق مائة وسبعا وثلاثين صفحة (من ٥٢١إلى ٦٥٨) ، وقد طبعتها -بفضل من الله - دار البشائر في بيروت، الطبعة الأولي،٢٠٠٢.
(٢) الصراع من أجل الإيمان، لجعفري لانغ (ص:٨١) .
(٣) المعجم المفصل في الأدب، د. محمد التونجي (١/١٨٧) ، ودار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٩٣م.
(٤) المصدر السابق (٢/٤٣٠) .
(٥) ولم نقل عيسى عليه السلام؛ لأنهم يرونه إلها لا رسولا.

<<  <   >  >>