للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تخطر في هذا العالم على قلب بشر كما لا يتصور أن تخطر صورة الألوان والألحان على قلب الأصم والأكمه إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره فعند ذلك يدرك حاله ويعلم قطعاً أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته فالدنيا حجاب على التحقيق وبرفعه ينكشف الغطاء فعند ذلك يدرك ذوق الطيبة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات والله الموفق بلطفه

بَيَانُ مَا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ

اعْلَمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ وَلِذَلِكَ قِيلَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ من الماء لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خير الأعمال أدومها وإن قل (١) والأشياء تستبان بأضداها وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل فالكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب إلا أن الكبيرة قلما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولو احق من جملة الصغائر فقلما يزني الزاني بغتة من غير مراودة ومقدمات وقلما يقتل بغتة من غير مشاحنة سابقة ومعاداة فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واطب الإنسان عليها عمره ومنها أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلها اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اسْتِعْظَامَهُ يَصْدُرُ عَنْ نُفُورِ الْقَلْبِ عنه وكراهيته له وَذَلِكَ النُّفُورُ يَمْنَعُ مِنْ شِدَّةِ تَأَثُّرِهِ بِهِ وَاسْتِصْغَارُهُ يَصْدُرُ عَنِ الْإِلْفِ بِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الْأَثَرِ فِي الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَطْلُوبُ تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة وقد جاء في الخبر المؤمن يرى ذنبه كالجبل فَوْقَهُ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَالْمُنَافِقَ يَرَى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره (٢) وقال بعضهم الذنب الذي لا يغفر قول العبد ليت كل ذنب عملته مثل هذا وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله فإذا نظر إلى عظم من عصى به رأى الصغيرة كبيرة وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين لا صغيرة بل كل مخالفة فهي كبيرة وكذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم للتابعين وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الموبقات إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم فكانت الصغائر عندهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى من الكبائر وبهذا السبب يَعْظُمُ مِنَ الْعَالِمِ مَا لَا يَعْظُمُ مِنَ الْجَاهِلِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ الْعَامِّيِّ فِي أُمُورٍ لَا يُتَجَاوَزُ فِي أَمْثَالِهَا عَنِ الْعَارِفِ لِأَنَّ الذَّنْبَ وَالْمُخَالَفَةَ يَكْبُرُ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الْمُخَالِفِ وَمِنْهَا السُّرُورُ بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب الشقاوة فَكُلَّمَا غَلَبَتْ حَلَاوَةُ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْعَبْدِ كَبُرَتْ الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه حتى إن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه


(١) حديث خير الأعمال أدومها وإن قل متفق عليه من حديث عائشة بلفظ أحب وقد تقدم
(٢) حديث المؤمن يرى دنبه كالجبل فوقه الحديث أخرجه البخارى من رواية الحارث بن سويد قال حدثنا عبد الله ابن مسعود حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه فذكر هذا وحديث لله أفرح بتوبة العبد ولم يبين المرفوع من الموقوف وقد رواه البيهقى في الشعب من هذا

<<  <  ج: ص:  >  >>