للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوة فالمبتدى أيضاً قد يستضر به فيكون النسيان أفضل له عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته وإن كان ذلك نازلاً عن ذروة مقامهم فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها وقد كان مستغنياً عنها لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلاً للأمر على المريد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أما إني لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع (١) وفي لفظ إنما أسهو لأسن ولا تعجب من هذا فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء وكالمواشي في كنف الرعاة

أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي كما قال صلى الله عليه وسلم للحسن كخ كخ (٢) لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول ارم هذه التمرة فإنها حرام ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقة ترك الفصاحة ونزل إلى لكنته بل الذي يعلم شاة أو طائراً يصوت به رغاءً أو صفيراً تشبهاً بالبهيمة والطائر تلطفاً في تعليمه فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق إنها مزلة أقدام العارفين فضلاً عن الغافلين نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه

بيان أَقْسَامُ الْعِبَادِ فِي دَوَامِ التَّوْبَةِ

اعْلَمْ أَنَّ التَّائِبِينَ فِي التَّوْبَةِ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ الطَّبَقَةُ الْأُولَى أَنْ يَتُوبَ الْعَاصِي وَيَسْتَقِيمَ عَلَى التَّوْبَةِ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَيَتَدَارَكُ مَا فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ وَلَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى ذُنُوبِهِ إِلَّا الزَّلَّاتِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ الْبَشَرُ عَنْهَا في العادات مهما لم يكن في رتبة النبوة فَهَذَا هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ وَصَاحِبُهُ هُوَ السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ الْمُسْتَبْدِلُ بِالسَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ وَاسْمُ هَذِهِ التَّوْبَةِ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَاسْمُ هَذِهِ النَّفْسُ السَّاكِنَةُ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى رَبِّهَا رَاضِيَةً مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً (٣) فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملي بمجاهدتها وردها ثم تتفاوت درجات النزاع أيضاً بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع وكذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموت قريباً من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفاً من الله تعالى واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن


(١) حديث أما إني لا أنسى ولكنى أنسى لأشرع ذكره مالك بلاغا بغير إسناد وقال ابن عبد البر لا يوجد فى الموطأ إلا مرسلا لا إسناد له وكذا قال حمزة الكتانى إنه لم يرد من غير طريق مالك وقال أبو طاهر الأنماطى وقد طال بحثى عنه وسؤالى عنه للأئمة والحفاظ فلم أظفر به ولا سمعت عن أحد أنه ظفر به قال وادعى بعض طلبه الحديث أنه وقع له مسندا
(٢) حديث أنه قال للحسن كخ كخ لما أخذ تمرة من الصدقة ووضعها في فيه أخرجه البخاري من حديث أبى هريرة وتقدم في كتاب الحلال والحرام
(٣) حديث سبق المفردون المستهترون بذكر الله الحديث أخرجه الترمذى من حديث أبى هريرة وحسنة وقد تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>