للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعلى من الصبر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير وقال بعض العارفين أهل الصبر على ثلاثة مقامات أولها ترك الشهوة وهذه درجة التائبين وثانيها الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين وثالثها المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصديقين

وسنبين في كتاب المحبة أن مقام المحبة أعلى من الرضا كما أن مقام الرضا أعلى من مقام الصبر وكأن هذا الانقسام يجري في صبر خاص وهو الصبر على المصائب والبلايا

واعلم أن الصبر أيضاً ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم فالصبر عن المحظورات فرض وعلى المكاره نفل والصبر على الأذى المحظور محظور كمن تقطع يده أو يد ولده وهو يصبر عليه ساكتا وكمن يقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن اظهاره الغيرة ويسكت على ما يجري على أهله فهذا الصبر محرم والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع فليكن الشرع محك الصبر فكون الصبر نصف الإيمان لا ينبغي أن يخيل إليك أن جميعه محمود بل المراد به أنواع من الصبر مخصوصة

بَيَانُ مَظَانِّ الْحَاجَةِ إِلَى الصَّبْرِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ

اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَلْقَى الْعَبْدُ فِي هذه الحياة لا يخلو من نوعين أحدهما هو الذي يوافق هواه والآخر هو الذي لَا يُوَافِقُهُ بَلْ يَكْرَهُهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّبْرِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ فِي جميع الأحوال لا يخلو عن أحد هذين النوعين أو عن كليهما فهو إذن لَا يَسْتَغْنِي قَطُّ عَنِ الصَّبْرِ

النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَالْمَالُ وَالْجَاهُ وَكَثْرَةُ الْعَشِيرَةِ وَاتِّسَاعُ الْأَسْبَابِ وَكَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعُ مَلَاذِّ الدُّنْيَا وَمَا أَحْوَجَ الْعَبْدَ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَضْبِطْ نَفْسَهُ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا والانهماك في ملاذها المباحة منها أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى حتى قال بعض العارفين البلاء يصبر عليه المؤمن والعوافي لا يصبر عليها إلا صديق وقال سهل الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء ولما فتحت أبواب الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم قالوا ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر وَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذكر الله} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عدواً لكم فاحذروهم} وقال صلى الله عليه وسلم الولد مبخلة مجبنة محزنة ولما نظر عليه السلام إلى ولده الحسن رضي الله عنه يتعثر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه ثم قال {صدق الله} إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني لما رأيت ابني يتعثر لم أملك نفسي أن أخذته ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار

فَالرَّجُلُ كُلُّ الرَّجُلِ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْعَافِيَةِ وَمَعْنَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده وعسى أن يسترجع على القرب وَأَنْ لَا يُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْفَرَحِ بِهَا ولا ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب وَأَنْ يَرْعَى حُقُوقَ اللَّهِ فِي مَالِهِ بِالْإِنْفَاقِ وَفِي بَدَنِهِ بِبَذْلِ الْمَعُونَةِ لِلْخَلْقِ وَفِي لِسَانِهِ بِبَذْلِ الصِّدْقِ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>