للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا قادر إلا الملك الجبار واذا انكشفت الغطاء عن أعين الغافلين فشاهدوا الأمر كذلك سمعوا عند ذلك نداء المنادي {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم لا ذلك على الخصوص ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفعهم الكشف فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى فإنه أصل أسباب الهلاك

[بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه]

اعلم إِنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ وَتَرْكَ الْكُفْرِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يكرهه إذ معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابه ومعنى الكفر نقيض ذلك إما بترك الاستعمال أو باستعمالها في مكارهه ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان أحدهما السمع ومستنده الآيات والأخبار والثاني بصيرة القلب وهو النظر بعين الاعتبار وهذا الأخير عسير وهو لأجل ذلك عزيز فلذلك أرسل الله تعالى الرسل وسهل بهم الطريق على الخلق ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْجُودٍ خَلَقَهُ إِذْ مَا خَلَقَ شَيْئًا فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَتَحْتَ الْحِكْمَةِ مَقْصُودٌ وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْبُوبُ وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى جَلِيَّةٍ وَخَفِيَّةٍ أَمَّا الْجَلِيَّةُ فَكَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ الشَّمْسِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَكُونُ النَّهَارُ مَعَاشًا وَاللَّيْلُ لِبَاسًا فَتَتَيَسَّرُ الْحَرَكَةُ عِنْدَ الْإِبْصَارِ وَالسُّكُونُ عِنْدَ الِاسْتِتَارِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ حِكَمِ الشَّمْسِ لَا كُلِّ الْحِكَمِ فِيهَا بَلْ فِيهَا حِكَمٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ دَقِيقَةٌ وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ فِي الْغَيْمِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ وَذَلِكَ لِانْشِقَاقِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ النَّبَاتِ مَطْعَمًا لِلْخَلْقِ وَمَرْعًى لِلْأَنْعَامِ وَقَدِ انْطَوَى الْقُرْآنُ عَلَى جملة من الحكم الجليلة التي تحتملها أَفْهَامُ الْخَلْقِ دُونَ الدَّقِيقِ الَّذِي يَقْصُرُونَ عَنْ فَهْمِهِ إِذْ قَالَ تَعَالَى {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حباً وعنباً} الآية وأما الحكمة في سائر الكواكب السيارة منها والثوابت فَخَفِيَّةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا كَافَّةُ الْخَلْقِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ فَهْمُ الْخَلْقِ أَنَّهَا زِينَةٌ لِلسَّمَاءِ لِتَسْتَلِذَّ الْعَيْنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} فَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ سَمَاؤُهُ وَكَوَاكِبُهُ وَرِيَاحُهُ وَبِحَارُهُ وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعظاء حَيَوَانَاتِهِ لَا تَخْلُو ذَرَّةٌ مِنْ ذَرَّاتِهِ عَنْ حكم كثيرة من حكمه واحدة إلى عشرة إِلَى أَلْفٍ إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ وَكَذَا أَعْضَاءُ الحيوان تنقسم إلا مَا يُعْرَفُ حِكْمَتُهَا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْإِبْصَارِ لا للبطش واليد للبطش لا للمشي والرجل للمشي لا للشم فأما الأعضاء الباطنة من الأمعاء والمرارة والكبد والكلية وآحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظ وسائر الصفات فلا يعرف الحكمة فيها سائر الناس والذين يعرفونها لا يعرفون منها إلا قدراً يسيراً بالإضافة إلى ما في علم الله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فَإِذَنْ كُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَ شَيْئًا فِي جِهَةٍ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا وَلَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ فِيهِ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ الْيَدِ إِذْ خُلِقَتْ لَهُ الْيَدُ لِيَدْفَعَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَا يُهْلِكُهُ وَيَأْخُذَ مَا يَنْفَعُهُ لَا لِيُهْلِكَ بِهَا غَيْرَهُ وَمَنْ نَظَرَ إِلَى وَجْهِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَقَدْ كفر نعمة العين ونعمة الشمس إذ الإبصار يتم بهما وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما يضره فيهما فقد استعملها في غير ما اريد به وهذا لأن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا ولا أنس

<<  <  ج: ص:  >  >>