للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عبارة عن وجود إلهي يسبح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر يصير كمانع من باطنه غير محسوس وإياه عنى بقوله تعالى {ولقد همّت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} فهذه هي مجامع النعم ولن تثبت إلا بما يخوله الله من الفهم الصافي الثاقب والسمع الواعي والقلب البصير المراعي المتواضع والمعلم الناصح والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وظلم الأعداء ويستدعي كل واحد من هذه الأسباب الستة عشر أسباباً وتستدعي تلك الأسباب أسباباً إلى أن تنتهي بالآخرة إلى دليل المتحيرين وملجأ المضطرين وذلك رب الأرباب ومسبب الأسباب وإذا كانت تلك الأسباب طويلة لا يحتمل مثل هذا الكتاب استقصاءها فلنذكر منها أنموذجاً ليعلم به معنى قوله تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وبالله التوفيق

بيان وجه الأنموذج في كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر

والإحصاء

اعلم أنّا جمعنا النعم في ستة عشر ضرباً وجعلنا صحة البدن نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب التي بها تتم نعمة الأكل فلا يخفى أن الأكل فعل وكل فعل من هذا النوع فهو حركة وكل حركة لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها ولا بد لها من قدرة على الحركة ولا بد من إرادة للحركة ولا بد من علم بالمراد وإدراك له ولا بد للأكل من مأكول ولا بد للمأكول من أصل منه يحصل ولا بد له من صانع يصلحه فلنذكر أسباب الإدراك ثم أسباب الإرادات ثم أسباب القدرة ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح لا على سبيل الاستقصاء

[الطرف الأول في نعم الله تعالى في خلق أسباب الإدراك]

اعلم أن الله تعالى خلق النبات وهو أكمل وجوداً من الحجر والمدر والحديد والنحاس وسائر الجواهر التي لا تنمى ولا تغذى فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي في الأرض وهي له آلات فبها يجتذب الغذاء وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة ثم تغلظ أصولها ثم تتشعب ولا تزال تستدق وتتشعب إلى عروق شعرية تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر إلا أن النبات مع هذا الكال ناقص فإنه إذا أعوزه غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من وضع آخر فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك فمن نعمة الله تعالى عليك أن خلق لك آلات الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في خلق الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك فأولها حاسة اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه وهذا أول حس يخلق للحيوان ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس لأنه إذا لم يحس أصلاً فليس بحيوان وأنقص درجات الحس أن يحس بما لا يلاصقه ويماسه فإن الإحساس مما يبعد منه إحساس أتم لا محالة وهذا الحس موجود لكل حيوان حتى الدودة التي في الطين فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب لا كالنبات فإن النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس بالقطع إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت

<<  <  ج: ص:  >  >>