للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحقق بقاء أجزاء النجاسة فيها

والسابع أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في تلك الحياض مع قلة الماء ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها

فهذه الأمور مع الحاجة الشديدة تقوى في النفس أنهم كانوا ينظرون إلى عدم التغير معولين على قوله صلى الله عليه وسلم خلق الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غير طعمه أو لونه أو ريحه (١) وهذا فيه تحقيق وهو أن طبع كل مائع أن يقلب إلى صفة نفسه كل ما يقع فيه وكان مغلوباً من جهته فكما ترى الكلب يقع في المملحة فيستحيل ملحاً ويحكم بطهارته بصيرورته ملحاً وزوال صفة الكلبية عنه فكذلك الخل يقع في الماء وكذا اللبن يقع فيه وهو قليل فتبطل صفته ويتصور بصفة الماء وينطبع بطبعه إلا إذا كثر وغلب وتعرف غلبته بغلبة طعمه أو لونه أو ريحه فهذا المعيار

وقد أشار الشرع إليه في الماء القوي على إزالة النجاسة وهو جدير بأن يعول عليه فيندفع به الحرج ويظهر به معنى كونه طهوراً إذ يغلب عليه فيطهره كما صار كذلك فيما بعد القلتين وفي الغسالة وفي الماء الجاري وفي إصغاء الإناء للهرة ولا تظن ذلك عفواً إذ لو كان كذلك لكان كأثر الاستنجاء ودم البراغيث حتى يصير الماء الملاقي له نجساً ولا ينجس بالغسالة ولا بولوغ السنور في الماء القليل

وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يحمل خبثاً فهو في نفسه مبهم فإنه يحمل إذا تغير

فإن قيل أراد به إذا لم يتغير فيمكن أن يقال إنه أراد به أنه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتادة ثم هو تمسك بالمفهوم فيما إذا لم يبلغ قلتين وترك المفهوم بأقل من ألأدلة التي ذكرناها ممكن وقوله لا يحمل خبثاً ظاهره نفي الحمل أي يقلبه إلى صفة نفسه كما يقال للمملحة لا تحمل كلباً ولا غيره أي ينقلب وذلك لأن الناس قد يستنجون في المياه القليلة وفي الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيرا مؤثر أم لا فتبين أنه إذا كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسة المعتادة

فإن قلت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحمل خبثاً ومهما كثرت حملها فهذا ينقلب عليك فإنها مهما كثرت حملها حكماً كما حملها حسا

فلا بد من التخصيص بالنجاسات المعتادة على المذهبين جميعاً

وعلى الجملة فميلي في أمور النجاسات المعتادة إلى التساهل فهما من سيرة الأولين وحسماً لمادة الوسواس وبذلك أفتيت بالطهارة فيما وقع الخلاف فيه في مثل هذه المسائل

[الطرف الثالث في كيفية الإزالة]

والنجاسة إِنْ كَانَتْ حُكْمِيَّةً وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا جِرْمٌ مَحْسُوسٌ فَيَكْفِي إِجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَوَارِدِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ إزالة العين وبقاء الطعم يدل على بقاء العين وكذا بقاء اللون إلا فيما يلتصق به فهو معفو عنه بعد الحت والقرص

أما الرائحة فبقاؤها يدل على بقاء العين ولا يعفى عنها إلا إذا كان الشيء له رائحة فائحة يعسر إزالتها فالدلك وَالْعَصْرُ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ يَقُومُ مَقَامَ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ فِي اللَّوْنِ وَالْمُزِيلُ لِلْوَسْوَاسِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ خُلِقَتْ طَاهِرَةً بِيَقِينٍ فَمَا لَا يُشَاهِدُ عليه نجاسة ولا يعلمها يقيناً يصلي معه ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباط إلى تقدير النجاسات

القسم الثاني طهارة الأحداث وَمِنْهَا الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ وَيَتَقَدَّمُهَا الِاسْتِنْجَاءُ

فَلْنُورِدْ كَيْفِيَّتَهَا عَلَى التَّرْتِيبِ مَعَ آدَابِهَا وَسُنَنِهَا مُبْتَدِئِينَ بسبب الوضوء وآداب قضاء الحاجة إن شاء الله تعالى

[باب آداب قضاء الحاجة]

يَنْبَغِي أَنْ يَبْعُدَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ فِي الصَّحْرَاءِ وَأَنْ يَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ إِنْ وَجَدَهُ وَأَنْ لا يكشف عورته قبل الانتهاء


(١) حديث خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف وقد رواه بدون الاستثناء أبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي سعيد وصححه أبو داود وغيره

<<  <  ج: ص:  >  >>