للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضرورتان في الجبلة وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك

واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك وإذ لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر في ثلاثة أمور

من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة واحد فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن وأما جنسه فأن لا يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق فإن قدرت على هذه الثلاثة وسقطت عنك مئونة الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكل إلا من حله فإن الحلال يعز ولا يفي بجميع الشهوات وأما ملبسك فيكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة يدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من الحرام والشبهة وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكنف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده

بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء سقفاً والأرض مستقراً فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد فإن طلبت مسكناً خاصاً طال عليك وانصرف إليه أكثر عمرك وعمرك هو بضاعتك ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلاً بينك وبين الأبصار ومن السقف سوى كونه دافعاً للأمطار فأخذت ترفع الحيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك

واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير فإذا دفعته يوماً بيوم في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية في تخويفك فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة عن قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك في أحوالهم لم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشياً عليه وبعضهم يخر ميتاً إلى الأرض ولا غرو وإن كان ذلك لا يؤثر في قلبك فإن قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون

الشطر الثاني

في الخوف

[بيان أحوال الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام في الخوف]

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه فيقول ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفاً من عذاب الله (١)

وقرأ صلى الله عليه وسلم آية في سورة الواقعة فصعق (٢)

وقال تعالى وخر موسى صعقاً ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة جبريل


(١) حديث عائشة كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة تغير وجهه الحديث متفق عليه من حديث عائشة
(٢) حديث قرأ في سورة الحاقة فصعق المعروف فيما يروى من هذه القصة أنه قرئ عنده إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً فصعق كما رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب مرسلا وهكذا ذكره المصنف على الصواب في تاب السماع كما تقدم

<<  <  ج: ص:  >  >>