للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْغَلَطُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَفْكَارِ كَمَا تَرَى مِنْ اخْتِلَافَاتِ الْعُقَلَاءِ بَلْ اخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ فِي زَمَانَيْنِ فَصَارَ دَلِيلُنَا عَلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا التَّوَسُّطُ الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَثَانِيهِمَا مُعَارَضَةُ الْوَهْمِ الْعَقْلَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَطَرُّقِ الْخَطَأِ فِيهَا (فَهُوَ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ) أَيْ الْعَقْلُ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِيمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إمَّا إرْشَادٌ أَوْ تَنْبِيهٌ لِيَتَوَجَّهَ الْعَقْلُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ أَوْ إدْرَاكِ زَمَانٍ يَحْصُلُ لَهُ التَّجْرِبَةُ فِيهِ فَتُعِينُهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلِهَذَا اخْتَرْنَا التَّوَسُّطَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ (فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ) لِعَدَمِ اسْتِيفَاءِ مُدَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا لِحُصُولِ

ــ

[التلويح]

السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ دَلِيلُهُ لِعِظَمِ خَطَرِهِ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الشَّاهِقُ فِي الْجَبَلِ إذَا لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَصِفْ إيمَانًا، وَلَا كُفْرًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ آمَنَ صَحَّ إيمَانُهُ، وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ زَمَانَ التَّجْرِبَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا فَإِنْ، وُجِدَ زَمَانَ التَّجْرِبَةِ، وَالتَّمَكُّنِ فَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ، وَإِلَّا فَمَعْذُورٌ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيرِ الزَّمَانِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ أَوْ سَمْعِيَّةٌ بَلْ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنْ تَحَقَّقَ يُعْذَرُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ يُخَالِفُهُ لِمَا يَرَى فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَأَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَيُعْذَرُ إلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ فَإِنْ قِيلَ: الشَّاهِقُ لَمَّا لَمْ يُكَلَّفْ بِالْإِيمَانِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَرَ دَمُهُ بَلْ يَضْمَنُ قَاتِلُهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقُتِلَ لَمْ يَضْمَنْ قَاتِلُهُ، وَكَذَا الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ إذَا قُتِلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ

[فَصْلٌ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً]

. (قَوْلُهُ فَصْلٌ ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ) يَعْنِي بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَالْأَوْلَى بِالذِّمَّةِ، وَلَمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْبَعْضِ أَنَّ الذِّمَّةَ أَمْرٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ يُعَبِّرُونَ عَنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ حَاوَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِتَحْقِيقِ الذِّمَّةِ لُغَةً، وَشَرْعًا وَإِثْبَاتِهَا بِالنُّصُوصِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّمَّةَ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ مَحَلَّ أَمَانَتِهِ أَكْرَمَهُ بِالْعَقْلِ، وَالذِّمَّةِ حَتَّى صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَثَبَتَ لَهُ حُقُوقُ الْعِصْمَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَمَا إذَا عَاهَدْنَا الْكُفَّارَ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ تَثْبُتُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>