للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[دليل مشروعية الاستصناع تشكيل النص]

مشروعية الاستصناع عند الجمهور

سبب عدم جواز الاستصناع عند جمهور الفقهاء

ذهب المالكية والشافعية والحنابلة , وزفر من الحنفية: إلى أن الاستصناع على الصفة المبينة في تعريفه غير جائزة شرعا:

- لأن المبيع مؤجل في الذمة , فلا يصح بيعه إلا مع تعجيل الثمن , لئلا يكون من بيع دين بدين. وبيع الدين بالدين متفق على تحريمه , لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ والكالئ هو الدين.

- ولأن فيه اشتراط عمل شخص معين , وهو الصانع , ولا يدرى أيسلم ذلك الرجل إلى الأجل أم لا , فيكون من بيع الغرر المنهى عنه.

- ولأنه من بيع المعدوم , وبيع المعدوم منهي عنه شرعا , لحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لا تبع ما ليس عندك.

بدائل الاستصناع عند جمهور الفقهاء

يرى جمهور الفقهاء أنه إن أراد طالب المصنوع الحصول عليه على الصفة المعينة التي يريدها , فأمامه أن يتعاقد مع الصانع بصيغة الإجارة , أو صيغة السلم:

- فصيغة الإجارة: أن يحضر طالب الصنعة المواد على حسابه الخاص , ويطلب من الصانع العمل على حسب المواصفات التي يريدها , ويحدد له أجر العمل. وحينئذ يمكن تقديم البدل النقدي أو تأجيله أو تقسيطه , لأن الأجرة لا يجب أن تكون معجلة. ويكون العقد ملزما للطرفين لا يجوز لأحد منهما فسخه بانفراده.

- وصيغة السلم: أن يتعاقد معه على أنه يشتري منه سلعة موصوفة في الذمة - غير محددة بعينها - لكن موصوفة بأوصاف ضابطة , ويضرب لتسليمها أجلا معينا. ولا يصح السلم ما لم يدفع الثمن فورا , أي في مجلس العقد قبل أن يفترق المتعاقدان , إلا أن المالكية أجازوا التأخير لدفع الثمن في حدود ثلاثة أيام بشرط أو غير شرط , لأنه تأخير يسير , فهو في حكم التعجيل.

ولا يجوز في عقد السلم أن يشترط أن تكون السلعة من صناعة البائع نفسه , أو من صنعة صانع آخر معين , بل يجب أن يكون العقد مبهما من هذه الناحية.

واشترط المالكية أن لا تحدد المادة الخام التي تصنع منها تلك السلعة , كأن يقول: أريد الشبابيك أن تكون مصنوعة من هذا الألومنيوم , وهذا الزجاج الموجود عندك. فإن قال ذلك واتفقا عليه فسد عقد السلم , بخلاف ما لو قال: من جنس هذا الألومنيوم وجنس هذا الزجاج , فيصح.

وإذا تم عقد السلم صحيحا كان ملزما للطرفين , لا يفسخ إلا باتفاقهما. وإذا جاء البائع بالمبيع عند الأجل موافقا للصنعة المشروطة , سالما من العيوب , لزم المشتري قبوله ودفع الثمن , سواء كان من صناعة ذلك البائع أو من صناعة غيره.

مشروعية الاستصناع عند الحنفية

قال الحنفية: الاستصناع جائز شرعا , استحسانا , أي استثناء من قاعدة عامة تقتضي عدم جوازه. وهذه القاعدة هي عدم صحة بيع المعدوم , التي دل عليها الحديث المشهور الذي رواه الصحابي حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: لا تبع ما ليس عندك.

وقال الكاساني القياس أن (الاستصناع) لا يجوز , لأنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم , وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. ويجوز (الاستصناع) استحسانا لإجماع الناس على ذلك لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير , وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تجتمع أمتي على ضلالة.

ويرى بعض الحنفية أن دليل مشروعية الاستصناع لم يكن الاستحسان فقط , وإنما كان دليله بالكتاب والسنة والإجماع.

الدليل من الكتاب:

قول الله تعالى: {ثم أتبع سببا ٩٠ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ٩١ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ٩٢ ثم أتبع سببا ٩٣ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٤ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٥ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٦ آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ٩٧ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا}

قال ابن عباس خرجا أي أجرا عظيما (صفوة التفاسير) .

وجه الاستدلال أن الله تعالى ذكر أنهم طلبوا من ذي القرنين أن يصنع لهم السد مقابل مال يخرجونه له من أموالهم. وهذا هو الاستصناع بعينه.

وقوله فيما بعد: {قال ما مكني فيه ربي خير} ليس إنكارا للصيغة التي عرضوها للتعامل معه. بل اقترح عليهم صيغة أخرى أفضل منها وهي أن يعينوه بما لديهم من القوى البشرية والإمكانيات المتاحة , ويعينهم هو بما لديه من الخبرة الفنية والعمل والدقيق.

فحيث أورد القرآن هذه القصة دون إنكار للاستصناع المذكور فيها , دل على جوازه ومشروعيته. إذ هو كتاب هداية فلا يناسبه أن يذكر ما هو منكر دون التنبيه على نكارته.

الدليل من السنة:

عن نافع أن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب , وجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه , فاصطنع الناس خواتيم من ذهب. فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه , فقال: إني كنت اصطنعته , وإني لا ألبسه , فنبذه , فنبذ الناس. رواه البخاري. ورواه أيضا بمعناه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وحديث صنع المنبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وفيه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة , امرأة قد سماها سهل أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس. فأمرته أن يعملها من طرفاء الغابة. ثم جاء بها , فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمر بها فوضعت فجلس عليه رواه البخاري أيضا.

على أن هذا الحديث وإن استشهد به الحنفية لا يعتبر نصا صريحا يدل على تجويز الرسول للاستصناع , إذ يحتمل أن الصنع كان على أساس نوع من التبرع , فلا يكون استصناعا.

الدليل من الإجماع:

تعامل الناس بالاستصناع منذ عهد النبوة إلى اليوم , دون نكير من أحد من أهل العلم , في المباني والأثاث والملابس والأحذية والأواني والسيوف والسروج ونحو ذلك كثير , ولا يخلو مجتمع من شيء من ذلك.

والتعامل دليل الحاجة العامة , التي في منع العمل بها حرج على الناس. والحرج ممنوع في الشريعة , لقول الله تعالى {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم}

وهذا أيضا يتضمن الإجماع على الاستصناع عمليا , وإن أنكرته بعض المذاهب الفقهية في دراساتها , إذ لا يكاد أحد من أهل العلم يخلو من أن يكون تعاقد بطريق الاستصناع على عمل شيء مما يحتاجه من أثاث أو غيره.

<<  <  ج: ص:  >  >>