للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِضَرْبِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا، فَقَالَ: ابْدَءُوا بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: ١٤٠] . فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ مِثْلَ فَاعِلِهِ، بَلْ إذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى دَعْوَةٍ مُبَاحَةٍ كَدَعْوَةِ الْعُرْسِ لَا تُجَابُ دَعْوَتُهُ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرٍ حَتَّى يَدَعَهُ، مَعَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ، فَكَيْفَ بِشُهُودِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ، فَكَيْفَ اسْتَجَازَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ. قِيلَ لَهُ: الْمُسْتَجِيزُ لِلشِّطْرَنْجِ مِنْ السَّلَفِ بِلَا عِوَضٍ: كَالْمُسْتَجِيزِ لِلنَّرْدِ بِلَا عِوَضٍ مِنْ السَّلَفِ، وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، بَلْ فِي الشِّطْرَنْجِ قَدْ تَبَيَّنَ عُذْرُ بَعْضِهِمْ كَمَا كَانَ الشَّعْبِيُّ يَلْعَبُ بِهِ لَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِتَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ، رَأَى أَنْ يَلْعَبَ بِهِ لِيُفَسِّقَ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِلْحَجَّاجِ، وَرَأَى أَنْ يَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ إعَانَةَ مِثْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَحْذُورًا عِنْدَهُ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاعْتِذَارُ إلَّا بِمِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ يُقَالُ: مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ، وَاَلَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ وَأَجْمَلُ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النِّسَاءِ لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ إلَّا الْمُسْكِرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، فَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْخَمْرِ نَوْعًا مِنْهُ دُونَ نَوْعٍ، وَظَنُّوا أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِهِ، وَشُمُولُ الْمَيْسِرِ لِأَنْوَاعِهِ كَشُمُولِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا لِأَنْوَاعِهِمَا.

وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْبَعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْت، وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتْبَعُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءً، وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>