للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَالَى خَالِقًا صِفَةً أَوْ حَالَةً وَحُكْمًا أَزْيَدَ مِنْ كَوْنِهِ خَالِقًا لَهَا، فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ مُنَازَعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي قَالُوهُ.

وَأَمَّا النِّزَاعُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَةَ الْمُتَكَلِّمِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ لِمُوجِدِ الْكَلَامِ، وَالنَّاسُ قَدْ أَطْنَبُوا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إلَى الْأُدَبَاءِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مَتَى سَمِعُوا مِنْ إنْسَانٍ كَلَامًا سَمَّوْهُ مُتَكَلِّمًا، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ الْفَاعِلُ لِلْكَلَامِ لَمَا أَطْلَقُوا اسْمَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا.

وَثَانِيهَا: إنَّ الِاسْتِقْرَارَ لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَسْوَدَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالسَّوَادِ، وَكَذَلِكَ الْأَبْيَضُ وَالْعَالِمُ وَالْقَادِرُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ.

وَثَالِثُهَا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَلَامَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَ قَالَ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: ١١] ثُمَّ إنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ الْقَوْلَ إلَيْهِمَا، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِقَوْلِهِ: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: ١١] وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ.

وَرَابِعُهَا: إنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الذِّرَاعِ الَّتِي أَكَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَأَقْوَى مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: تَكَلُّمُ الْجِنِّيِّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ فَأَضَافُوا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالْمَصْرُوعِ إلَى الْجِنِّيِّ لِاعْتِقَادِهِمْ كَوْنَ الْجِنِّيِّ فَاعِلًا لَهُ فَلَوْلَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْفَاعِلُ لِلْكَلَامِ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَرُبَّمَا كَانَ مُرَادُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ الْجِنِّيِّ حَالَ كَوْنِهِ قَرِيبًا مِنْ لِسَانِ الْمَصْرُوعِ فَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ الْخَالِي عَنْ الْفَوَائِدِ الْعَقْلِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَنَحْنُ نُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى كَلَامًا مُغَايِرًا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَنَدَّعِي قِدَمَ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِيهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ:

<<  <  ج: ص:  >  >>