للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: ٤٣] يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَسَّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ، كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا، بَلْ بِصِنْفٍ مِنْ النِّسَاءِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ، فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً، كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالصَّغِيرَةِ فَلَا يُنْقَضُ بِهَا، فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ، فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ، وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ، أَوْ لَا يَكُونُ. وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا، كَالْإِحْرَامِ، وَالِاعْتِكَافِ، وَالصِّيَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَا الْقِيَاسُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ.

وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُ، وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ.

وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: ٢٣٧] . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.

وَفِي السُّنَنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ، وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>