للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَجِدُ أَيْضًا مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْجَبْرِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالْبَحْثِ يَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إلَى الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ، كَمَا يَنْتَهِي الْأَوَّلُونَ إلَى الشَّطْحِ وَالطَّامَّاتِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحَقِّ، وَأُولَئِكَ يُصَدِّقُونَ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الدِّينُ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ، وَفِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ.

وَمَنْ عَظَّمَ مُطْلَقَ السَّهَرِ وَالْجُوعِ وَأَمَرَ بِهِمَا مُطْلَقًا فَهُوَ مُخْطِئٌ، بَلْ الْمَحْمُودُ السَّهَرُ الشَّرْعِيُّ، وَالْجُوعُ الشَّرْعِيُّ، فَالسَّهَرُ الشَّرْعِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ كِتَابَةِ عِلْمٍ أَوْ نَظَرٍ فِيهِ أَوْ دَرْسِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَالْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ، فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: كِتَابَةُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ: رَكْعَتَانِ أُصَلِّيهِمَا بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ أَفْضَلُ مِنْ كِتَابَةِ مِائَةِ حَدِيثٍ، وَآخَرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقُولُ: بَلْ الْأَفْضَلُ فِعْلُ هَذَا وَهَذَا، وَالْأَفْضَلُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَمِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ جِنْسُهُ أَفْضَلَ، ثُمَّ يَكُونُ تَارَةً مَرْجُوحًا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ. كَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ - كَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَوَقْتِ الْخُطْبَةِ - مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالِاشْتِغَالُ حِينَئِذٍ إمَّا بِقِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ اسْتِمَاعٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، ثُمَّ الذِّكْرُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ هُوَ الْمَشْرُوعُ. دُونَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ يَصْلُحُ دِينُهُ عَلَى الْعَمَلِ الْمَفْضُولِ دُونَ الْأَفْضَلِ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ، كَمَا أَنَّ الْحَجَّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ.

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الذِّكْرُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اجْتِهَادُهُ فِي الدُّعَاءِ لِكَمَالِ ضَرُورَتِهِ أَفْضَلَ لَهُ مِنْ ذِكْرٍ هُوَ فِيهِ غَافِلٌ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَكُونُ تَارَةً هَذَا أَفْضَلَ لَهُ، وَتَارَةً هَذَا أَفْضَلَ لَهُ، وَمَعْرِفَةُ حَالِ كُلِّ شَخْصٍ شَخْصٍ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ لَهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي كِتَابٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ هِدَايَةٍ يَهْدِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ، وَمَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ إلَّا صَنَعَ لَهُ وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>