للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم توادعا بعد مباراة الذمم وشيعها إلى سفينة النار ثم رجع إلى منزله كئيباً مستوحشاً. لأنها كانت كثيراً ما تدله على الرشاد وتنهج له الرأي السديد. ثم لم يشعر بعد أيام إلا وروائح المطران قد انتشرت وهي أشد أذى من الأولى. فبعث منها آخر إلى اللجنة المذكورة وكتب لهم. أن لم تقطعوا هذه الرائحة من هذا الجو شكاكم كل ذي خيشوم. فلما بلغهم كتابه وعرضوه على الطلاب العلم عندهم وجدوا أن قوله الحق. فبدأ لهم أن يسدوا مسام المطران عن إخراج ذلك الخبث. وأن يحضروا إليهم الفارياق لإعادة ترجمة الكتاب الذي تقدم ذكره. هذا وقد كان الفارياق ألّف في أحوال أهل الجزيرة كتاباً وعاب عليهم فيه بعض عادات ورسوم دينية ودنياوية مما تفردوا به على نصارى بلاده. وذلك كتغطيسهم أجراس الكنائس في ماء المعمودية وإطلاق أسماء القديسين عليها. وكخروجهم بالدمى والتماثيل نهاراً وإيقاد الشموع أمامها وما أشبه هذا. وكان قد أعار الكتاب المذكور رجلاً من المسلمين ممن كان المطران يتردد عليه. فأتفق أن زاره المطران يوماً فرأى الكتاب على الكرسي وقد عرف خط مؤلفه. فغافل الرجل حتى خرج من الحجرة وتناول الكتاب وقطع منه الأوراق التي اشتملت على ذكر تلك العادات. ثم بعث بها إلى رئيس مصلح البخر وكتب عليها باللغة الطليانية. أنظر أيها الرئيس أن كان قائل هذا الكلام يصلح لأن يكون تحت رئاستك أو لا. إلا أن الرئيس المذكور لما كان لا يعرف ما اشتملت عليه تلك الصحائف مع عدم قدرته على عزل المتوظفين في خدمة الدولة. كان لا بد من إعادة الأوراق إلى المؤلف. وكان المطران قد فر من الجزيرة قبل إعادتها وطهر الجوّ من روائحه. ولو بقي بعد ذلك لعوقب على هذه السرقة معاقبة تليق بأمثاله. ووقتئذ عزم الفارياق على السفر لقضاء تلك المصلحة أعني ترجمة الكتاب وأرسل إلى زوجته يعلمها بما استقر عليه الرأي. وأشار عليها بالرجوع إذ كان يرجو أنه يبقى في بلاد الإنكليز بعد إنهائه الكتاب. غير أنه جرت العادة في بلاد الإفرنج بأن مدرسي اللغات في مدارسهم الجامعة لا يكونون إلا منهم وأن كانوا جاهلين. وبعد أن رجعت الفارياقية تأهب الفارياق للسفر. وهاهو الآن يوعي القاموس والأشموني في صندوقه. وهاأنا منطلق لقضاء حاجة لا بد منها فاسمحوا لي أن أستريح قليلاً.

[الكتاب الرابع]

[إطلاق بحر]

من لم يسافر في البحار ويقاس فيها الأنواء والأمواج فلا يقدر ترفه المعيشة في البر حق قدرها. فينبغي لك أيها القارئ البريّ أن تتصور في بالك كلما أعوزك الماء القراح واللحم الغضيض والفاكهة الطريئة والبقول الخضلة والخبز اللين أن إخوانك ركاب البحر محرومون من هذا كله. وإن سفينتهم لا تزال تميد بهم وتتقلب وتصعد وتهبط. فدون كل لقمة يسترطونها غصة. وفي كل رقدة يرقدونها مغصة. وأنه متى وضع بين يديك لون واحد من الطعام فلا تفكر إلا فيه. وأعتقد أن غيرك يغتذي بمثله في تلك الساعة بل بأقل منه. فبذلك يحصل لك التأسّي والتسلي. فأما إذا نظرت إلى قصور الملوك والأمراء وصروح الوزراء وفكرت فيما يأكلون ويشربون فإنك لا ريب تتعب نفسك وتعنيها لغير فائدة. ولكن أتحسب أن المعتقة التي يشربها الأمير ألذّ من الماء الذي تشربه أنت. حالة كونك عارفاً بأمور المعاش والمعاد. مضطلعاً بإدارة مصلحة لك تكفيك وأهلك المؤونة. وحالة كون زوجتك تجلس قبالتك أو عن يمينك وشمالك. وولدك الصغير على ركبتك. تارة يغني لك. وتارة يناولك بيده اللطيفة ما سألت عنه أمه. وإذا خرجت شيعاك إلى الباب وإذا قدمت صعدا معك وأجلسك على أنظف متكأ في الدار.

<<  <   >  >>