للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم أن الفارياق أقام عند معلمه ريثما ختم الكتاب المذكور. وبعد ذلك أوجس منه العلم أن يربكه في مسائل تصعب عليه فينفضح بها. فأشار علي والده بأن يخرجه من الكتاب ويشغله بنسج الكتب في البيت به به فلبث على هذه الحالة مدة طويلة فاستفاد منها ما أمكن لمثله أن يستفيد من تجويد الخط وحفظ الألفاظ بَدْ بد وكان أهل البلاد يفضلون حسن الخط على كل ما تصنعه اليد. فعندهم إن من يكتب خطاً حسناً هو الذي أفق بين أقرانه في الفضل. ومع اشتهار ذلك فلم يكن حاكم البلاد يستخدم من الكتاب إلا من بذأت العين خطه وعاف الذوق السليم كلامه عيط عيط أشعارا بأن الخط لا يتوقف إلا على الحظ. وإن إدارة لا تفتقر إلى تهذيب الكلام. تع تع وإن كثيرا قد نالوا المراتب السامية والمناصب السنية وهم لا يحسنون توقيع اسمهم الشريف حس حس غير أن الفارياق لم يكن قرير العين بهذه الحرفة. إذ كان يعتقد أن الرزق الذي يأتي كشق القلم لا يكون إلا ضيقا وي وي نعم أن كثيرا من الناس قد نالوا العيش الواسع الهني. والخير المتتابع الوفي. من مورد هو بالنسبة إلى شق القلم رحب لكنه بالنسبة إلى شرههم وسرفهم ضيق واه واه غير أن الفارياق وقتئذ كان غراً لا تجربة له ولا خبرة فكان يحكم على العبيد بالقريب. ولا شيء أقرب إلى عين الكاتب من لسان قلمه وعارض قرطاسه. أو أدنى إلى قلبه من الكلام الذي يكتبه واللبيب من قنع بالحرفة التي يتعاطاها ولم يشق عليه أمت الشق ولم يشرئب إلى ما ليس يحسنه شع شع.

[انتكاسة حاقية وعمامة واقية]

قد كان من طبع الفارياق كما هو دأب جميع الأحداث أيضا يحاكي في الزي والأطوار والكلام من كان متميزا فيعصره بالفضل والدراية. وإنه رأى ذات يوم قرزاما معتما بعمامة كبيرة مدورة. وكان هذا القرزام يحسب وقتئذ من فحول الشعراء فأحب الفارياق أن يكون له مثل هذه العمامة على صغر رأسه. فكان إذا مشى يميل رأسه منها يمنة ويسرة كالقاضي الذي يخرج في الأسواق بعد صلوة الجمعة ويسلم على الناس. واتفق أن أباه سار مرة إلى دار الحاكم واستصحبه معه وأركبه مهرة له. وكان هو راكباً حصانا. فمكثا هناك أياماً. فعن للفارياق يوما من الأيام أن يركض المهرة في الميدان وكان الحصان مربوطا في جانب. فأجرى المهرة نصف شوط حتى إذا قابلت مربط أليفها التفتت إليه كالمشيرة إن فارسها غير جدير بركوبها بين جياد الأمير. فما كان من الفارياق إلا أن سقط على أم رأسه. وأقبلت المهرة تجري إلى الحصان وغادرته مجندلا على الجدالة. ولو كان فارسا مجيدا لما تركته على تلك الحالة بل كانت تنتظره حتى يقوم.

<<  <   >  >>