للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اعلم أن أكثر ما يتفاخرون باقتنائه ويتباهون بالاعتناء به، ارتباط كرائم الخيل يجلبونها من الآفاق، ويسبرون عتاقها بحسن السباق، ويتخذون طراد الحلبة ميدان مراحهم ومضمار انشراحهم، ويحتفلون ليومه، ويستدعون لشهوده الأعيان، ويستحضرون لمشاهدته ذوي الخبرة والفرسان. ولا ريب في أن الملوك بهذه الوسيلة يتوصلون إلى حماية ملكهم إذ لا يحامي عنه إلاّ كل شجاع جواد على متون الصافنات العتاق فبها يملؤون قلوب الأعداء رعباً، ويذيقونهم نكال الحرب طعناً وضرباً.

ذكر أبو الفرج الأصبهاني أن المهدي العباسي أجرى الخيل فسبقها فرسه الغضبان، فطلب الشعراء فلم يجد منهم أحداً غير أبي دلامة، فقال له: قلده يا يزيد، فقلده عمامته ليضحكه بذلك، فقال له المهدي: يا ابن الخنا أنا أكثر منك عمائم، إنما أردت أن تقلده شعراً، ثم قال: يا لهفي على العماني، فأحضروه فقال له: قلد فرسي هذا فقال:

قد غضب الغضبان إذ جد الغضب ... وجاء يحمي حسباً فوق الحسب

من إرث عباس بن عبد المطلب ... وجاءت الخيل به تشكو النصب

له عليها ما لكم على العرب

فقال المهدي: أحسنت والله! وأمر له بعشرة آلاف درهم. وقال ابن الأعرابي: أجرى هارون الرشيد خيله فجاء فرسه المشمر سابقاً، وكان معجباً به، فأمر الشعراء أن يصفوه فقال أبو العتاهية:

جاء المشمر والأفراس يقدمها ... هوناً على رسله منها وما انبهرا

وجاء الريح حسرى وهي جاهدة ... ومر يختطف الأبصار والنظرا

وذكر المسعودي: أن الرشيد أجرى الخيل، فلما أرسلت صار إلى مجلسه في صدر الميدان حيث توافى إليه الخيل، فكان في أوائلها سوابق من خيله، يقدمها فرسان في عنان واحد، لا يتقدم أحدهما على صاحبه فتأمل أحدهما فقال: فرسي والله، ثم تأمل الآخر فقال: فرس ابني المأمون. فكان فرسه السابق وفرس المأمون ثانية فسر بذلك. فلما انقضى المجلس وهم بالانصراف، قال الأصمعي: - وكان الفضل بن الربيع حاضراً - فقلت: يا أبا العباس! هذا يوم من الأيام، فأحب أن توصلني إلى أمير المؤمنين. فقام الفضل وقال: يا أمير المؤمنين هذا الأصمعي يذكر شيئاً من الفرسين يزيد الله بن أمير المؤمنين سروراً، فقال: هاته فلما دنا قال: ما عندك يا أصمعي؟ قال: يا أمير المؤمنين كنت وابنك اليوم والفرسين كما قالت الخنساء:

جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر

حتى إذا بدت القلوب وقد ... لزت هناك القدر بالقدر

وهما كأنهما وقد برزا ... صقران قد حطا على وكر

برزت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري

أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر

وذكر المقريزي: أن العزيز بالله سابق بين الطيور، فسبق طائر الوزير يعقوب طائر العزيز، فشق ذلك على العزيز، ووجد أعداء الوزير سبيلاً إلى الطعن فيه، فكتبوا إلى العزيز أنه قد اختار من كل صنف أعلاه، ولم يترك لأمير المؤمنين إلاّ أدناه حتى الحمام فبلغ ذلك الوزير فكتب إلى العزيز:

قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والمثل الثاقب

طائرك السابق لكنه ... لم يأت إلاّ وله حاجب

فأعجب العزيز ذلك، ولم يلتفت للواشي. وقال ابن ظافر: ركب المعتمد على الله أبو القاسم بن عباد للنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه وخواص شعرائه: فلما أبعد أخذ في المسابقة فجاء فرسه بين البساتين سابقاً فرأى شجرة تين قد أينعت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت، فسدد إليها عصا كانت بيده فأصابها وثبتت على أعلاها، فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها، ثم التفت إلى ابن جامع الصباغ فقال له أجز:

كأنها فوق العصا فقال ... هامة زنجي عصى

فزاد سروره بحسن ارتجاله وأجزل جائزته. وقال الوزير عبد الغفور الكاتب يصف فرساً أشهب للأمير يحيى بن سير جاء سابقاً:

يا ملكاً لم يزل قديماً ... بكل علياء جد وامق

وسابقاً في الندى أتتنا ... جياده في المدى سوابق

لله منها أسيل خدٍّ ... أهريت شدقيه كالجوالق

حديد قلب حديد طرف ... ذو منكب يشبه البواسق

ذو جشة في الصهيل دلت ... منه على أكرم الخلائق

أشهب كالرجع مستطير ... كأنه الشيب في المفارق

<<  <   >  >>