للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحديث ورد بصيغة الخبر (برفع يلدغ) وبصيغة النهي (بكسر يلدغ) ، فعلى الأول هو إخبار في معنى الأمر أي ليكن المؤمن حازما حذرا. كيسا فطنا لا يؤتى من ناحية الغافلة. فيلدغ مرة بعد أخرى في أمر الدّين أو الدنيا. أو هو إخبار عن شأن المؤمن الكامل الذي أوقفته تجاربه على غوامض الأمور. وأنه دائما يعتبر في المستقبل بحوادث الماضي؛ وأما المؤمن المغافل «١» فقد يلدغ مرارا؛ وعلى أنه نهي فمعناه ما قال شارح المشكاة: إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نفسه الزكية الكريمة الميل إلى الحلم والعفو عن أبي عزة جرّد منها مؤمنا كاملا؛ حازما ذا شهامة، ونهاه عن الانخداع، وكأنه قال له: ليس من شيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله، ويذب عن دينه أن ينخدع من مثل هذا الغادر المتمرد مرة بعد أخرى. فانته عن حديث الحلم؛ وامض لشأنك في الانتقام منه والانتصار من عدو الله: فإن مقام الغضب لله يأبى الحلم والعفو؛ ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله؛ فينتقم لها؛ وقد ظهر من هذا أن الحلم مطلقا غير محمود كما أن الحرد «٢» كذلك.

فمقام التحلم مندوب إليه ولكن مع المؤمنين، وأما الأعداء فلهم الغلظة، ألا ترى قوله تعالى في وصف الصحابة: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «٣» .

ولعلك عرفت بهذا أن الإيمان لا يتفق والغافلة، بل يقتضي الحذر والحيطة «٤» .

وأن أولئك الذين يضحك عليهم، ولا يتعظون بالماضي، ولا يستفيدون من التجارب لم يكمل الإيمان بعد في نفوسهم. وإن كانوا قائمين برسوم العبادة. فالمؤمن كيس حذر، من خلقه الاعتبار بكل بلاء. ولعلّ مستمد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى حكاية عن يعقوب هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ «٥» ، وقوله تعالى في وصف المنافقين أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ «٦» .


(١) أي من لا فطنة له.
(٢) الحرد: الاعتزال والتنحي عن الناس.
(٣) سورة الفتح، الآية: ٢٩.
(٤) الحيطة: الاحتياط.
(٥) سورة يوسف، الآية: ٦٤.
(٦) سورة التوبة، الآية: ١٢٦.

<<  <   >  >>