للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حضر الغزوات كلها- راكبا في سفر خلف الرسول صلى الله عليه وسلم دابته لا يفصله منه إلا آخرة الرحل التي كان يسند إليها ظهره. وكان إردافه له تواضعا منه صلى الله عليه وسلم وإكراما للشباب المجاهد، فقال: يا معاذ. قال إجابة لك يا رسول الله بعد إجابة، وطاعة لك بعد طاعة. فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحدثه، وبعد أن سار ساعة قال: يا معاذ. قال:

إتجاها إليك يا رسول الله بعد اتجاه، وإسعادا بعد إسعاد، فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا بدون محادثة. وبعد أن سار فترة قال: يا معاذ بن جبل. قال: إخلاصا لك يا رسول الله بعد إخلاص. ومساعدة غب «١» مساعدة، فتلك نداآت ثلاث نبهت معاذا إلى العناية بما يلقى؛ وصرف الذهن إليه، وإرهاف «٢» الأذن له؛ وإيقاظ الحافظة «٣» لضبطه ووعيه وعرفته أنه نبأ عظيم؛ وحديث خطير، ثم قال له: هل تدري يا معاذ ما حق الله على عباده وما الذي يجب عليهم أن يحققوه شكرا له؟ ولم يستفهم الرسول صلى الله عليه وسلم منه استجوابا له، ولكن زيادة في تنبيهه إلى ما يلقى عليه، وتشويقا إليه.

وقد ردّ معاذ علم ذلك إلى الله الذي أحاط بكل شيء علما. وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبلغ عن الله وحيه وهذا من معاذ كمال أدب: وقف عند حده. ولم يقف ما ليس له به علم. وقد بين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا:

كلمة جامعة لم تترك من الدّين صغيرة ولا كبيرة. فعبادته الخضوع له والتذلل. وذلك بطاعته فيما أمر ونهي فنؤمن برسوله ونصدق بكتابه، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، ونهذب نفوسنا ونصح أجسامنا بالصيام، ونحج البيت الحرام ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ونحسن عشرة الناس، ونصدق في معاملتهم، ونخالقهم «٤» بخلق حسن، ونقف عند ما شرع الله، لا نتعدّى حدوده. ولا نتجاوز رسومه. ونجانب كل ما نهى عنه من الخبائث مما هو اعتداء على النفس. أو المال أو العرض أو إضرار بالخلق.

وأساس ذلك علم بكتاب الله، وبما احتواه، وهذا بتلاوته وتدبره ودراسته وتفهمه. أما توحيده وعدم الإشراك به فأن نعتقد أنه وحده صاحب الخلق والأمر. وأن من دونه لا يملك ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله. سواء أكان ملكا مقربا؛ أو نبيا مرسلا، أو وليا عابدا؛ ومن توحيده أن تكون الأعمال خالصة لوجهه؛ لا يشوبها خداع ولا رياء ولا


(١) غبّ: بمعنى بعد.
(٢) إرهاف: اصفاء.
(٣) الحافظة: قوة تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني وتذكرها وتسمى الذاكرة أيضا.
(٤) نخالقهم: نعاملهم بخلق حسن.

<<  <   >  >>