للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تعالى فجاء ثلاثة منهم إلى أزواجه يسألون عن كيفية عبادته في السر ومقاديرها، فلما علموا أنها لا تزيد على عبادتهم وجدوها قليلة بالنسبة إليهم. لا تفي بما يبغون الحصول عليه من الزلفى ورأوا من وعد الله غفران ذنوب الرسول صلى الله عليه وسلم ما تقدم منها وما تأخر ما يغنيه عن كثرة العبادة، وأنهم دونه في ذلك بمراحل كبيرة، وفي حاجة إلى مداومة الطاعة والإكثار منها.

فأخذ كل على نفسه أن يلازم نوعا من العبادة لا ينقطع عنه، فرأى أحدهم أن يجافي جنبه عن المضاجع ليلا ويصرف جميع لياليه أبدا في العبادة فلا يعطي نفسه حظها من النوم والراحة، لأن السهر في ذكر الله يصفي الفكر، ويرفق الذهن، والنوم يدعو إلى الكسل والتراخي ويبلد النفس. ورأى آخر أن يصوم الدهر ولا يفطر، لأن الصيام يكبح «١» جماح «٢» شهواته ويكسر شره نفسه وينفي ما خبث من طباعه ويغسل ما دنس من أخلاقه، ويجعله يستشعر الرحمة والرأفة بالضعفاء والفقراء والمساكين.

ورأى آخر أن يعتزل النساء فلا يتزوج، لأن ذلك يبعده عن الاشتغال بالدنيا وملاذها وينسيه عبادة الله حيث يشغله أمر معاشه والسعي على أولاده وتربيتهم والنظر في أمورهم من التفرغ للطاعة.

فلما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين منبها إلى خطأ ما عزم عليه هذا النفر؛ وإلى أن التقرب إلى الله لا يكون بتحميل النفس فوق طاقتها وإجهادها بالشاق من الطاعات بل إن خير الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وأنهم يوشكون أن يوقعوا أنفسهم في عجز وضعف لا يقوون معهما على أدنى أنواع العبادات فضلا عن أعلاها فيكونون كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وخير لهم أن يترفقوا بأنفسهم ليستديموا الطاعة ويتمتعوا بما أحله الله لهم من الطيبات، إذ لا رهبانية «٣» في الإسلام.

ولقد كان من آدابه صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا يكرهه وخطب في شأنه ألا يعين فاعله ولا يواجهه بما يكره ولا يسميه باسمه على رؤوس الملأ. بل يقول: ما بال رجال أو ما بال أقوام لأن المقصود وهو الزجر عما اعتزموا عليه يحصل لهم ولغيرهم ممن سمع


(١) يكبح: يمنع ويرد.
(٢) جماح: جمح الرجل: ركب هواه فلا يمكن رده.
(٣) رهبانية: هي التخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها والعزلة عن أهلها.

<<  <   >  >>