للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا عَنْهُ صِفَةَ الرِّسَالَةِ وَضَعُوا مَوْضِعَهَا صِفَةَ الْجُنُونِ، فَإِذَا نُفِيَ مَا زَعَمُوهُ فَقَدْ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ.

وَقَدْ أُجِيبَ قَوْلُهُمْ وَتَأْكِيدُهُمْ ذَلِكَ بِحَرْفِ (إِنَّ) وَلَامِ الْابْتِدَاءِ إِذْ قَالُوا إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [الْقَلَم: ٥١] بِمُؤَكِّدَاتٍ أَقْوَى مِمَّا فِي كَلَامِهِمْ إِذْ أُقْسِمَ عَلَيْهِ وَجِيءَ بَعْدَ النَّفْيِ بِالْبَاءِ الَّتِي تُزَادُ بَعْدَ النَّفْيِ لِتَأْكِيدِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ مَنْفِيَّةً لِدَلَالَةِ الْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ عَلَى ثَبَاتِ الْخَبَرِ، أَيْ تَحَقُّقِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ.

وَقَوْلُهُ: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي مَجْنُونٍ الْمَنْفِيِّ. وَالتَّقْدِيرُ: انْتَفَى وَصْفُ الْمَجْنُونِ بِنِعْمَةِ رَبِّكِ عَلَيْكَ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ إِنْعَامِ اللَّهِ إِذْ بَرَّأَكَ مِنَ النَّقَائِصِ. وَالَّذِي أَرَى أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً وَأَنَّ الْبَاءَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَتَقْدِيرُهُ: أَنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي تَعَلُّقِ الْبَاءِ فِي قَوْله: بِسْمِ اللَّهِ [هود: ٤١] وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اسْتِعْمَالُهُمْ كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ:

كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا

وَذَهَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «أَمَالِيهِ» أَنَّ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ حَرْفُ مَا النَّافِيَةِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ وَقَدَّرَهُ: انْتَفَى أَنْ تَكُونَ مَجْنُونًا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ. وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ:

(مَجْنُونٍ) إِذْ لَوْ عُلِّقَ بِهِ لَأَوْهَمَ نَفْيَ جُنُونٍ خَاص وَهُوَ الْمَجْنُون الَّذِي يَكُونُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ

وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ، وَاسْتَحْسَنَ هَذَا ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ الثَّالِثِ لَوْلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِالْحَرْفِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو الْفَتْحِ فِي خُصُوصِ تَعَلُّقِ الْمَجْرُورِ وَالظَّرْفِ بِمَعْنَى الْحَرْفِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلٍ مِثْلُ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي قَوْلِكَ: يَا لَزَيْدٍ (يُرِيدُ فِي الْاسْتِغَاثَةِ) ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٢٩] .

وَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَ بُهْتَانَ أَعْدَائِهِ أَعْقَبَهُ بِإِكْرَامِهِ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ بِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِحَرْفِ إِنَّ وَبِلَامِ الْابْتِدَاءِ وَبِتَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ وَهُوَ فِي قَوْلِهِ «لَكَ»