للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(٢٥)

ضَمِيرُ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ: بَلَوْناهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: ٨] . وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا دَعَتْ إِلَيْهِ مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: ١٤- ١٥] فَإِنَّ الْازْدِهَاءَ وَالْغُرُورَ بِسَعَةِ الرِّزْقِ الْمُفْضِيَيْنِ إِلَى الْاسْتِخْفَافِ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ فِي كُنْهِهَا وَدَلَائِلِهَا قَدْ أَوْقَعَا مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ أَصْحَابَهُمَا فِي بَطَرِ النِّعْمَةِ وَإِهْمَالِ الشُّكْرِ فَجَرَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ شَرَّ الْعَوَاقِبِ، فَضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ مَثَلًا بِحَالِ أَصْحَابِ هَذِهِ الْجَنَّةِ لَعَلَّهُمْ يَسْتَفِيقُونَ مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَغُرُورِهِمْ. كَمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَرِيبٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَضَرَبَ مَثَلًا بِقَارُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.

وَالْبَلْوَى حَقِيقَتُهَا: الْاخْتِبَارُ وَهِيَ هُنَا تَمْثِيلٌ بِحَالِ الْمُبْتَلَى فِي إِرْخَاءِ الْحَبَلِ لَهُ بِالنِّعْمَةِ لِيَشْكُرَ أَوْ يَكْفُرَ، فَالْبَلْوَى الْمَذْكُورَةُ هُنَا بَلْوَى بِالْخَيْرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَدَّ أَهْلَ مَكَّةَ بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ، وَنِعْمَةِ الرِّزْقِ، وَجَعَلَ الرِّزْقَ يَأْتِيهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَسَّرَ لَهُمْ سُبُلَ التِّجَارَةِ فِي الْآفَاقِ بِنِعْمَةِ الْإِيلَافِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةِ الصَّيْفِ، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَهُمُ النِّعْمَةَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْهُمْ لِيُكْمِلَ لَهُمْ صَلَاحَ أَحْوَالِهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ إِلَى مَا فِيهِ النَّعِيمُ الدَّائِمُ فَدَعَاهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ أَعْرَضُوا وَطَغَوْا وَلَمْ يَتَوَجَّهُوا إِلَى النَّظَرِ فِي النِّعَمِ السَّالِفَةِ وَلَا فِي النِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي أَكْمَلَتْ لَهُمُ النِّعَمِ.

وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَعَنْ شُكْرِ نِعْمَتِهِ.

وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بِأَنْ يَلْحَقَهُمْ مَا لَحِقَ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مِنَ الْبُؤْسِ بَعْدَ النَّعِيمِ وَالْقَحْطِ بَعْدَ الْخِصْبِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ فِي نَوْعِهِ فَقَدِ اتَّحَدَ جِنْسُهُ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بَعْدَ سِنِينَ إِذْ أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِسَبْعِ سِنِينَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ.

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْمَضْرُوبِ بِهَا الْمَثَلُ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهُمْ وَهِيَ أَنَّهُ كَانَتْ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ:

ضَرَوَانُ (بِضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَرَاءٍ وَوَاوٍ مَفْتُوحَاتٍ وَأَلِفٍ وَنُونٍ) مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ بِقُرْبِ