للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمِنْهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْأَشْعَرِيِّ مِثْلَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ تَمَسَّكُوا بِظَوَاهِرِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصِّحَاحُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ. وَقَدْ غَلَا قَوْمٌ مِنَ الْآخِذِينَ بِالظَّاهِرِ مِثْلَ الْكَرَامِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ فَأُلْحِقُوا بِالصِّنْفِ الْأَوَّلِ.

وَمِنْهُمْ فِرَقُ النُّظَّارِينَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ قَوَاعِدِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَالْأَشَاعِرَةُ، وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ.

فَأَقْوَالُهُمْ فِي رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ نَاسِجَةٌ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ:

فَالسَّلَفُ أَثْبَتُوهَا دُونَ بَحْثٍ، وَالْمُعْتَزِلَةُ نَفَوْهَا وَتَأَوَّلُوا الْأَدِلَّةَ بِنَحْوِ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَتَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ لِمُعَارَضَتِهَا الْأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ عِنْدَهُمْ فَرَجَّحُوا مَا رَأَوْهُ قَطْعِيًّا وَأَلْغَوْهَا.

وَالْأَشَاعِرَةُ أَثْبَتُوهَا وَرَامُوا الِاسْتِدْلَالَ لَهَا بِأَدِلَّةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ وَتُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ الْمَطْلُوبَ.

وَمَا جَاءَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ حُجَاجٍ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا مِنِ اتِّجَاهِ نُقُوضٍ وَمُنُوعٍ وَمُعَارَضَاتٍ، وَكَذَلِكَ مَا أَثَارَهُ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى مُخَالِفِيهِ مِنْ مُعَارَضَاتٍ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا مِنِ اتِّجَاهِ مُنُوعٍ مُجَرَّدَةٍ أَوْ مَعَ الْمُسْتَنَدَاتِ، فَطَالَ الْأَخْذُ وَالرَّدُّ. وَلَمْ يَحْصُلْ طَائِلٌ وَلَا انْتَهَى إِلَى حَدٍّ.

وَيحسن أَن نقوض كَيْفِيَّتَهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَغَيْرِهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الرَّاجِع إِلَى شؤون الْخَالِقِ تَعَالَى.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَلَفِنَا: أَنَّهَا رُؤْيَةٌ بِلَا كَيْفٍ وَهِيَ كَلِمَةُ حَقٍّ جَامِعَةٌ، وَإِنِ اشْمَأَزَّ مِنْهَا الْمُعْتَزِلَةُ.

هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ لَنْ تَرانِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٣] .

وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلى رَبِّها عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْعَطَاءِ الْعَجِيبِ وَلَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ لَيَرَوُنَّ بَهِجَاتٍ كَثِيرَةً فِي الْجَنَّةِ.