للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْكَبَدُ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ، وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْرِيرِ الْمُرَادِ بِالْكَبَدِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى رَبْطِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ الْكَبَدَ وَبَيْنَ السِّيَاقِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَافْتِتَاحِهِ بِالْقَسَمِ الْمُشْعِرِ بِالتَّأْكِيدِ وَتَوَقُّعِ الْإِنْكَارِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ بِصَدَدِ تَفْسِيرِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَتْ وَاقِعَةً فِي كَلَامٍ يَجِبُ التئامه، ويحق وءامه.

وَقَدْ غَضُّوا النَّظَرَ عَنْ مَوْقِعِ فِعْلِ خَلَقْنَا عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْكَبَدَ إِذْ يَكُونُ فِعْلُ خَلَقْنَا كَمَعْذِرَةٍ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ فِي مُلَازَمَةِ الْكَبَدِ لَهُ إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ فِيهِ. وَذَلِكَ يَحُطُّ مِنْ شِدَّةِ التَّوْبِيخِ وَالذَّمِّ، فَالَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ وَيُنَاسِبُ الْقَسَمَ أَنَّ الْكَبَدَ التَّعَبُ الَّذِي يُلَازِمُ أَصْحَابَ الشِّرْكِ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ. وَاضْطِرَابُ رَأْيِهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ وَبِطَلَبِ النَّجَاةِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ. وَمِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَقَوْلُهُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ دَلِيل مَقْصُودًا وَحْدَهُ بَلْ هُوَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: ٥] . وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَابْتَدَأَهُمُ الْقُرْآنُ بِإِثْبَاتِهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْأُولَى.

فَوِزَانُ هَذَا التَّمْهِيدِ وَزَانُ التَّمْهِيدِ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التِّين: ٤، ٥] بَعْدَ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: التِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التِّين: ١] إِلَخْ.

فَمَعْنَى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ [الْبَلَد: ٥] : أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِ جَسَدِهِ فَنُعِيدَهُ خَلْقًا آخَرَ، فَهُوَ فِي طَرِيقَةِ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إِلَى قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [الْقِيَامَة: ١- ٤] . أَيْ كَمَا خَلَقْنَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي نَصَبٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ

نَخْلُقُهُ خَلْقًا ثَانِيًا فِي كَبَدٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِكُفْرِهِ.

وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ إِدْمَاجِ قَوْلِهِ فِي كَبَدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيرُ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي أَنَّهُمَا مِنْ مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالظَّرْفِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي كَبَدٍ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي الْمُلَازَمَةِ فَكَأَنَّهُ مَظْرُوفٌ فِي الْكَبَدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [سبأ: ٨، ٩]