للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْخِلَافِ: مَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَذَلِكَ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهَا الصُّبْحُ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الشَّائِعَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمْ مَا

رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ نَسِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مِنْ شِدَّةِ الشُّغْلِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ:

«شَغَلُونَا- أَيِ الْمُشْرِكُونَ- عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، أَضْرَمَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا» .

وَالْأَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوَّلُهُمَا لِمَا فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَمَرَتَا كَاتِبَيْ مُصْحَفَيْهِمَا أَنْ يَكْتُبَا قَوْلَهُ تَعَالَى: حَافَظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ وَأَسْنَدَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تُسْنِدْهُ حَفْصَةُ، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرَ، بِحُكْمِ عَطْفِهَا عَلَى الْوُسْطَى تَعَيَّنَ كَوْنُهَا الصُّبْحَ، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مَسَالِكِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَأَفْضَلِيَّةُ الصُّبْحِ ثَابِتَةٌ بِالْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى مُخَصِّصًا لَهَا بِالذِّكْرِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَتَوَسُّطُهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ

ظَاهِرٌ، لِأَنَّ وَقْتَهَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ نَهَارِيَّتَانِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ لَيْلِيَّتَانِ، وَالصُّبْحُ وَقْتٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَ نَافِلَتَهُ مُعَامَلَةَ نَوَافِلِ النَّهَارِ فَشَرَعَ فِيهَا الْإِسْرَارَ، وَفَرِيضَتَهُ مُعَامَلَةَ فَرَائِضِ اللَّيْلِ فَشَرَعَ فِيهَا الْجَهْرَ.

وَمن جِهَة الْوِصَايَة بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، هِيَ أَجْدَرُ الصَّلَوَاتِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْمُثَبِّطَاتُ عَنْهَا، بِاخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ وَالْعُصُورِ وَالْأُمَمِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَقَدْ تَشُقُّ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْأُخْرَى عَلَى طَائِفَةٍ دُونَ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَقَالِيمِ وَالْفُصُولِ.