للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ أَكْثَرُ حُصُولًا لِكَوْنِ الصَّدَقَةِ مُتَعَلِّقَةً بِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بِخِلَافِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَنَالُهُمُ النَّفَقَةُ لَا يَعْلَمُهُمُ الْمُنْفِقُ.

فَالْمَنُّ عَلَى الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ هُوَ تَذْكِيرُهُ بِالنِّعْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَمِنْ فِقْرَاتِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَلِمِ النَّوَابِغِ» : «طَعْمُ الْآلَاءِ أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ. وَهُوَ أَمَرُّ مِنَ الْآلَاءِ عِنْدَ الْمَنِّ» الْآلَاءُ الْأَوَّلُ النِّعَمُ وَالْآلَاءُ الثَّانِي شَجَرٌ مُرُّ الْوَرَقِ، وَالْمَنُّ الْأَوَّلُ شَيْءٌ شِبْهُ الْعَسَلِ يَقَعُ كَالنَّدَى عَلَى بَعْضِ شَجَرِ بَادِيَةِ سِينَا وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَة: ٥٧] ، والمنّ الثَّانِي تَذْكِيرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالنِّعْمَةِ.

وَالْأَذَى الْإِسَاءَةُ وَالضُّرُّ الْقَلِيلُ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: ١١١] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَذَى الصَّرِيحُ مِنَ الْمُنْعِمِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ كَالتَّطَاوُلِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْطَاهُ، أَوْ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعَطَاءِ، بَلْهَ تَعْيِيرِهِ بِالْفَقْرِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَذَى الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمَنِّ.

وَأَشَارَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» إِلَى أَنَّ الْمَنَّ لَهُ أَصْلٌ وَمَغْرِسٌ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَصِفَاتِهِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَمَنْبَعُ الْأَذَى أَمْرَانِ: كَرَاهِيَةُ الْمُعْطِي إِعْطَاءَ مَالَهُ وَشِدَّةُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَرُؤْيَتُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقِيرِ، وَكِلَاهُمَا مَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ فَإِنَّ كَرَاهِيَةَ تَسْلِيمِ الْمَالِ حُمْقٌ لِأَنَّ مَنْ بَذَلَ الْمَالَ لِطَلَبِ رِضَا اللَّهِ وَالثَّوَابِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ أَشَرَفُ مِمَّا بَذَلَهُ، وَظَنُّهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقِيرِ جَهْلٌ بِخَطَرِ الْغِنَى، أَيْ أَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ بِمَا تَتَفَاوَتُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنَ التَّزْكِيَةِ لَا بِعَوَارِضِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ الَّتِي لَا تَنْشَأُ عَنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ.

وَلَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِ كَشَتْمِهِ وَضَرْبِهِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ.

أَوْسَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ بَيَانًا وَتَرْغِيبًا وَزَجْرًا بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَفَنُّنَاتٍ بَدِيعَةٍ فَنَبَّهَنَا بِذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ.

وَكَيْفَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَقِوَامُ الْأُمَّةِ دَوَرَانُ أَمْوَالِهَا بَيْنَهَا، وَأَنَّ مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الِانْتِفَاعُ بِالثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوهٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ رَعْيِ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ وَرَعْيِ الْوِجْدَانِ الْخَاصِّ، وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ مَعَ الَّذِي كَدَّ لِجَمْعِ الْمَالِ وَكَسْبِهِ،