للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صُبْرَةٍ مَجْمُوعَةٍ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْكُلِّ الْجَمِيعِيِّ، وَأَمَّا الْكُلُّ الْمَجْمُوعِيُّ فَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ إِلَّا مَجَازًا. فَإِذَا أُضِيفَتْ (كُلُّ) إِلَى اسْمٍ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ، سَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْإِثْبَاتِ وَفِي النَّفْيِ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ عَلَى (كُلُّ) كَانَ الْمَعْنَى عُمُومَ النَّفْيِ لِسَائِرِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّ النَّفْيَ كَيْفِيَّةٌ تَعَرِضُ لِلْجُمْلَةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَبْقَى مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَكَيَّفُ بِالسَّلْبِ عِوَضًا عَنْ تَكَيُّفِهِ بِالْإِيجَابِ، فَإِذَا قُلْتَ كُلُّ الدِّيَارِ مَا دَخَلْتُهُ، أَوْ لَمْ أَدْخُلْ كُلَّ دَارٍ، أَوْ كُلَّ دَارٍ لَمْ أَدْخُلْ، أَفَادَ ذَلِكَ نَفْيَ دُخُولِكَ أَيَّةَ دَارٍ مِنَ الدِّيَارِ، كَمَا أَنَّ مُفَادَهُ فِي حَالَةِ

الْإِثْبَاتِ ثُبُوتُ دُخُولِكَ كُلَّ دَارٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ لِلَفْظِ كُلُّ سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:

قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ

كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ النَّصْبَ لَا يُفْسِدْ مَعْنًى وَلَا يُخِلُّ بِمِيزَانٍ. وَلَا تَخْرُجُ (كُلُّ) عَنْ إِفَادَةِ الْعُمُومِ إِلَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ فِي خَبَرٍ يُرِيدُ بِهِ إِبْطَالَ خَبَرٍ وَقَعَتْ فِيهِ (كُلُّ) صَرِيحًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: كُلُّ الْفُقَهَاءِ يُحَرِّمُ أَكْلَ لُحُومِ السِّبَاعِ، فَتَقُولُ لَهُ: مَا كُلُّ الْعُلَمَاءِ يُحَرِّمُ لُحُومَ السِّبَاعِ، فَأَنْتَ تُرِيدُ إِبْطَالَ الْكُلِّيَّةِ فَيَبْقَى الْبَعْضُ، وَكَذَلِكَ فِي رَدِّ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُخْطِئَةِ كَقَوْلِ الْمَثَلِ: «مَا كُلُّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً» ، فَإِنَّهُ لِرَدِّ اعْتِقَادِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ:

وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً

وَقَدْ نَظَرَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر الْجُرْجَانِيُّ إِلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْأَخِيرِ فَطَرَدَهُ فِي اسْتِعْمَالِ (كُلُّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ بَعْدَ أَدَاةِ النَّفْيِ وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَجَزَ أَبِي النَّجْمِ يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِ رَفْعِ (كُلُّ) وَنَصْبِهِ فِي قَوْلِهِ «كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ» . وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ تَعَقُّبًا مُجْمَلًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ أَغْلَبِيٌّ، وَأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّفَ فِي مَوَاضِعَ. وَقَفَّيْتُ أَنَا عَلَى أَثَرِ التَّفْتَازَانِيِّ فَبَيَّنْتُ فِي تَعْلِيقِي «الْإِيجَازُ عَلَى دَلَائِلَ الْإِعْجَازِ» أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْعَكْسُ وَحَاصِلُهُ مَا ذكرت هُنَا.