للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْرَةِ الْإِفَادَةِ وَتَعَدُّدِ الدَّلَالَةِ، فَجُمَلُ الْقُرْآنِ لَهَا دَلَالَتُهَا الْوَضْعِيَّةُ التَّرْكِيبِيَّةُ الَّتِي يُشَارِكُهَا فِيهَا الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كُلُّهُ، وَلَهَا دَلَالَتُهَا الْبَلَاغِيَّةُ الَّتِي يُشَارِكُهَا فِي مُجْمَلِهَا كَلَامُ الْبُلَغَاءِ وَلَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِمْ إِلَى مَبْلَغِ بَلَاغَتِهَا.

وَلَهَا دَلَالَتُهَا الْمَطْوِيَّةُ وَهِيَ دَلَالَةُ مَا يُذْكَرُ عَلَى مَا يُقَدَّرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ قَلِيلَةٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ وَكَثُرَتْ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ تَقْدِيرِ الْقَوْلِ وَتَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِ وَتَقْدِيرِ الصِّفَةِ.

وَلَهَا دَلَالَةُ مَوَاقِعِ جُمَلِهِ بِحَسَبِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، كَكَوْنِ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا، أَوْ فِي مَوْقِعِ الِاسْتِدْرَاكِ، أَوْ فِي مَوْقِعِ جَوَابِ سُؤَالٍ، أَوْ فِي مَوْقِعِ تَعْرِيضٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَتَأَتَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِقَصْرِ أَغْرَاضِهِ فِي قَصَائِدِهِمْ وَخُطَبِهِمْ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّذْكِيرِ وَالتِّلَاوَةِ سَمَحَتْ أَغْرَاضُهُ بِالْإِطَالَةِ، وَبِتِلْكَ الْإِطَالَةِ تَأَتَّى تَعَدُّدُ مَوَاقِعِ الْجُمَلِ وَالْأَغْرَاضِ.

مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الجاثية: ٢٢]- بَعْدَ قَوْلِهِ- أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ

[الجاثية: ٢١] فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَى آخِرِهِ مُفِيدٌ بِتَرَاكِيبِهِ فَوَائِدَ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ، وَهُوَ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ

وَاقِعٌ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي مَنْ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ.

وَإِنَّ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي وَضْعِ الْجُمَلِ وَأَجْزَائِهَا فِي الْقُرْآنِ دَقَائِقَ عَجِيبَةً كَثِيرَةً لَا يُحَاطُ بِهَا وَسَنُنَبِّهُ عَلَى مَا يَلُوحُ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِلَيْكَ مَثَلًا مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ لَكَ عَوْنًا عَلَى اسْتِجْلَاءِ أَمْثَالِهِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً- إِلَى قَوْلِهِ- وَكَأْساً دِهاقاً لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: ٢١- ٣٥] فَكَانَ لِلِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ جَهَنَّمَ مَا يُفَسِّرُ الْمَفَازَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أَنَّهُ الْجَنَّةُ لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَكَانُ فَوْزٍ. ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً مَا يَحْتَمِلُ لِضَمِيرٍ (فِيهَا) مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها أَنْ يَعُودَ إِلَى كَأْساً دِهاقاً

وَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَيِ الْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي مُلَابَسَةِ شُرْبِ الْكَأْسِ مَا يَعْتَرِي شَارِبِيهَاُُُُُُ